بقلم الشاعر: محمود توفيق

عبد الرحمن الخميسى .. وأيام معه

بقلم الشاعر: محمود توفيق.


فى سنة 1945 كنت طالباً مستجداً بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وكان عبد الرحمن الخميسى نجماً بازغاً فى سماء الأدب والشعر، إذ كان من الكتاب اللامعين فى جريدة المصرى السيارة، وكان من الكتاب المشرفين على الصفحة الأخيرة، صفحة الأدب والفن بتلك الصحيفة، مع سعد مكاوى، وزكريا الحجاوى، وآخرين. وكانت شهرتة كشاعر وكاتب قد بدأت تطبق الآفاق، بحيث كان آلاف القراء ينتظرون كل أسبوع ما يكتبه من القصائد أو القصص القصيرة أو المقالات أو الصفحات من صياغته الجديدة لكتاب ألف ليلة وليلة - الشهير.
وكنا - أنا وعدد من زملائى المقربين فى الكلية، منهم كمال عبد الحليم، الشاعر الشهير فيما بعد، واسماعيل صبرى عبدالله - الوزير والقائد اليسارى - فيما بعد، وناهيد أبو زهرة - الشاعر والمستشار - فيما بعد، وكامل زهيرى - الصحفى ونقيب الصحفيين - فيما بعد، وعبد الماجد أو حسبو - الشاعر والوزير السودانى - فيما بعد، كنا نلتقى فى بوفيه كلية الحقوق، لنتحدث فى أوقات فراغنا من المحاضرات، وكان من أهم ما نتناوله فى أحاديثنا، أخبار، وقصائد، وكتابات عبد الرحمن الخميسى، المنشورة فى ذلك اليوم.
كان الخميسى معروفا لنا ولغيرنا من الطلاب، وكنا نراه أحياناً وهو سائر فى الطريق إلى كلية الآداب المجاورة، إما لحضور محاضرة، أو لإلقاء محاضرة، أو لإلقاء بعض أشعاره، وكان يلتف حوله فى دخوله أو خروجه، العديد من الطلبة والطالبات، المعجبين والمعجبات، إما بأدبه وشعره، وإما بحديثه الشيق، وإما بوسامته وأناقته.
كنت آراه من بعيد لبعيد، ومن حين إلى حين، ولكنى لم أكن قد تعرفت عليه شخصياً، وإن كنت متابعاً لأخباره وآثاره الأدبية.
ومرت سنوات كثيرة، وحدثت متغيرات كبيرة فى حياتى وحياة البلاد. حتى كان العام 1951، حيث عرفت أن الخميسى قد أصبح شيوعياً، وأنه انضم إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى، التى كنت أنتمى إليها. ثم عرفت بعد ذلك أنه قد اشترك فى انقسام (التيار الثورى) الذى كان قد وقع فى تلك الحركة برئاسة الرفيق بدر، سيد سليمان رفاعى، الذى كان سكرتيراً عاماً للحركة.
وبعد عامين آخرين، فى سنة 1953، بعد قيام ثورة يوليو 1952، عرفت أن الخميسى قد ألقى القبض عليه مع آخرين فى تلك الحركة، وأنه مقدم للمحاكمة أمام إحدى المحاكم العسكرية بتهمة الشيوعية، ثم علمت أنه قد صدر حكم ببراءته من الاتهام، غير أنه قد استمر حبسه بعد ذلك على سبيل الاعتقال.
استمر حبس الخميسى معتقلاً لعدة سنوات، حتى أصبح الشاعر محمد أحمد محجوب، صديق الخميسى، رئيساً لوزراء السودان. ولم يتأخر محجوب عن نجدة صديقه، بل حضر إلى مصر، وسارع بالذهاب للقاء جمال عبد الناصر فى مكتبه، وحدث الآتى:
- بعد تبادل السلام والتحيات، جلس محجوب صامتاً لا يتكلم، وقد بدا عليه الحزن والغضب، وتنبه عبد الناصر لذلك، فسأله:
- مالك، زعلان ليه؟
واستمر محجوب فى تجهمه، وقال كلمة واحدة:
- الخميسى.
وفهم جمال الموقف، وقال:
- ماله الخميسى. واحد شيوعى واعتقلناه، فيها إيه دى؟
ولم يرد محجوب على السؤال، ولكنه قال فى حزم:
- علىّ الطلاق ما أنا ماشى من هنا إلا إذا أفرجت عن الخميسى. وأضاف، وإذا كنتم مش عايزينه هنا فى مصر، أنا آخده معى للسودان.
وضحك جمال عبد الناصر، وأصدر أمراً عاجلاً بالافراج عن الخميسى.
ولم يسافر محجوب إلا بعد أن زار الخميسى فى منزله بعد الافراج عنه، وتناول معه العشاء - لحمة راس كان هووالخميسى من محبيها.
وظللت أنا سجينا حتى آخر عام 1959، حيثم أصدر عبد الناصر - بعد تدخل من يوسف صديق - قراراً بالافراج عنى بعفو صحى.
وخرجت من السجن، والتقيت بالخميسى شخصياً وجهاً لوجه، ونشأت بيننا صداقة ومحبة وطيده. وكانت إقامتى على مقربة من محل اقامته بحى عابدين، فكنا نتلاقى يومياً فى كثير من الأحيان.
عاصرت الخميسى وهو يقوم بعمل غريب، كلفه به الدكتور ثروت عكاشه، وزير الثقافة فى ذلك الحين، وهو تعريب أوبريت "الأرملة الطروب"، من اللغة الفرنسية - إلى اللغة العربية الدارجه، بحيث يتم أداؤها بنفس الألحان، وهو عمل شديد الصعوبة، ولم يسبق لأحد فى مصر أن قام بمثله. ودأب الخميسى على أداء هذا العمل باصرار وصبر طويل، حتى أنجزه على أكمل وجه، وتم تقديم الأوبريت على مسرح الأوبرا ببطولة رتيبه الحفنى، ولقيت نجاحاً باهراً.
ثم عاصرت الخميسى، وهو يطرق بنجاح، أبواب العمل الصحفى، والمسرحى، والسينمائى، والموسيقى، على اختلاف ضروبها وألوانها، متنقلاً فيها من نجاح إلى نجاح.
وكان الصديق الشاعر عبد الماجد أبو حسبو، قد عين وزيراً للثقافة فى السودان، فى وزارة الشاعر محمد أحمد محجوب، فوجه إلينا دعوة منه لزيارة السودان، أنا والخميسى، ورجاء النقاش - الأديب والناقد الأدبى والفنى المعروف - فذهبنا إلى هناك فى فبراير سنة 1968. وكانت زيارة حافلة بألوان الحفاوة والمودة من جانب الصديقين الشاعرين، وزير الثقافة، ورئيس الوزراء، ومن جانب الوسط الثقافى والأدبى فى الخرطوم كلها. وهناك رأيت وجهاً آخر من وجوه نبوغ الخميسى وقدراته، وما يحظى به من القبول الجماهيرى، سواء فى مصر أو فى السودان، بل وفى العالم العربى كله.
قضينا أسبوعين فى لقاءات واحتفالات أدبية وإنسانية حميمة، كان الخميسى فيها نجماً ساطعاً من الحضور والتألق.
ثم عدنا إلى مصر، واستأنف الخميسى فيها نشاطه الأدبى والفنى، المتواصل، والمتعدد الوجوه.
ثم سافر الخميسى فجأة إلى العراق، مدعواً للعمل فيه من جانب صديقه طارق عزيز نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة العراقى حينذاك.
وظللت أتابع نشاطه ونجاحاته هناك، وما أحرزه من مكانة على المستوى الأدبى والفنى، كما على المستوى الشخصى، إذ سرعان ما أصبح نجماً ساطعاً فى الحياة الثقافية والاجتماعية العراقية، كما كان حاله فى السودان.
ودعانى الخميسى للذهاب إلى بغداد لزيارته هناك، وتعددت دعواته لى فذهبت إلى هناك فى ضيافة الخميسى، وفى ضيافة طارق عزيز طيب الله ثراه، ولمست عن قرب مدى ما حققه الخميسى هناك من نجاحات.
ثم مرت أيام وأعوام، وانتقل الخميسى من بغداد إلى موسكو بدعوة من الجهات الأدبية والثقافية فيها، وكنت أنا قد التحقت بالعمل مستشاراً قانونياً لمنظمة التضامن الافريقى الآسيوى التى كان يرأسها عبد الرحمن الشرقاوى، وسافرت إلى روسيا للمشاركة فى اجتماع كان مقرراً عقده للجان التضامن السوفيتية فى تبليس عاصمة جورجيا. وفى الطائرة من موسكو إلى تبليسى رأيت عبد الرحمن الخميسى فجأة على غير ميعاد، رأيته فى الطائرة واقفاً أمامى بطوله الفارع وأناقتة المعهودة، ورأيته يضع على صدره وساماً ذهبياً عليه صورة لينين، وهو الوسام الشهير الذى كان ارفع وسام فى الاتحاد السوفيتى، والذى لم يكن يُمنح إلا لقلة محدودة من النابهين من أبناء و أصدقاء الدولة السوفيتية، وعرفت أن الخميسى كان فى طريقه لحضور مؤتمر التضامن فى تبليس، بدعوة من رئاسة المؤتمر، الذى كان يرأسه الرفيق ابراجيموف، رئيس اتحاد الكتاب فى الاتحاد السوفيتى. الذى كان قد أصبح صديقاً للخميسى.
قضينا عدة أيام فى المؤتمر، وشارك الخميسى فيه، وكان يلقى التكريم والحفاوة حيثما توجه فى المؤتمر أو خارجه، ولم يكن أحد من مئات الحاضرين يحمل وسام لينين على صدره إلا الخميسى، وإلا واحداً من الروس كان بطلاً من أبطال الاتحاد السوفيتى.
ولقيت الخميسى مرة أخرى فى موسكو حيث كنت هناك لحضور مؤتمر آخر من مؤتمرات التضامن. وعلم الخميسى بوجودى، وكان هو مقيماً هناك منذ عدة سنوات، وكان قد داهمة مرض القلب ويعالج منه بمعرفة الأطباء السوفييت، فبادر بالاتصال بى، ودعانى إلى منزله فى موسكو، وكانت درجة الحرارة يومها هى 10 درجات تحت الصفر، وكان الخميسى قد أعد لى عشاء مصرياً هو أرانب بالملوخية.
وفى هذا اللقاء عرضت على الخميسى العودة إلى مصر، وكنت قد تحدثت مع أخينا العزيز عبد الرحمن الشرقاوى، فى ذلك الأمر، فوعد بالتدخل لدى الرئيس حسنى مبارك للحصول على موافقة من السلطات على عودة الخميسى، وعرضت الأمر على الخميسى، فلم يقبل ولم يرفض، ولكنه وعدنى بالتفكير فيه وابلاغى بالرأى الذى ينتهى إليه.
لم أر الخميسى بعد ذلك لحين وفاته. وبدلاً من أن أراه شخصياً رأيت نعشه فى مسجد عمر مكرم بعد أن أحضره أبناؤه من موسكو بعد وفاته.
جلست فى المسجد بين المعزين، وأنا أنظر إلى النعش المسجى، واسترجع كل ذكرياتى عن الخميسى، ومع الخميسى. ووجدت نفسى تجيش بالشعر، عندها بدأت فى انشاء قصيدتى فى رثاء عبد الرحمن الخميسى التى كان مطلعها:

هــذا هو النيـلُ  فانْهَلْ  من  مَــواردهِ       وكفكفْ  الدمعَ .. وأرحمْ  قلبكَ العانـى

وهذه  مِصــرُ  قد  أرخَــتْ غدائرهــا      واستقبلتــكَ    بأشـــواقٍ    وأشجــــان



وبعد يومين، كانت القصيدة قد نشرت فى الصفحة الأدبية بجريدة الأهرام.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق