مقدمــة


رسائـل عن عـدد من الأحبـاب
الـراحلين ، من الشعـراء والكتـاب.


مقدمـة شعرية

وتـذكُـــُر أحبـابـــكَ  الغـائـبـيـــنْ        فتُجرى مع الشـوق دمع العيــونْ
عرفـت مـع الحُـب دمـع الفِـــراق        وشجــواً يـؤرِّق منـك الجفــــون
ووقـع الــردَي فى أَحَـبِّ النفـوس         إليـك ... وفى الإخــوة الأقربيـن
تهــاوت مـن الأُفــق كـل النجــومِ        وأمسيـت فى وَحشـةِ  كالسجيــن
وكُـنـتَ تُحــاذِرُ كـأس الفــــــراقِ        فصـرت تُعاقــِرُ كــأس المنــون
***
ألا  رَجـعـةٌ  للـزمــان  القـديـــــم        تُزيـل عن النفس وَقْع الهمـــومْ !
زمـانَ  الصِبـا  وارف  بالظِــلال         وبُستــانـه  زاهِـــرُ  بالكــــــروم
وشَـمـلُ  الأحـبـة  لــم  ينفــــــرطْ        وحَبـلُ  المَّــودة  عِقُـد  نظِـيم ...
ودُنياك  تَمضى  كَمـَرِّ  السحــابِ         رُخاءً  ..  وتَخطُر  مثل  النسيــم
أولئـكَ عهـدُ  طــواه  الزمـــــانُ          وأنَّى لعهد الصِبا  أن  يدوم ! (1)

__________________________________________________
(1)  من قصيـدة:  قطرات من ثمالة الكأس – ديوان ما بعد الحب.


الفصل الأول: الشاعر الضابط الوطنى: محمد توفيق على




الشاعر محمد توفيق على
في شبابه، ضابطاً بالجيش المصرى، فى السودان
سنة 1910




الشاعر محمد توفيق على - بقلم الشاعر محمود توفيق


هو والدى - الشاعر محمد توفيق على - والدى وأستاذى، وأول الشعراء المظلومين فى عصرنا. (1)
هو الشاعر الضابط الوطنى - المولود بقرية زاوية المصلوب مركز الواسطى مديرية بنى سويف فى عام 1882، والضابط بالجيش المصرى بالسودان، والذى شارك فى حرب استرداده بعد الثورة المهديه، فى مراحلها الأخيرة، وعانى بعد ذلك الكثير من الاضطهاد والمضايقات من جانب الرؤساء الانجليز، بسبب شجاعته ووطنيتة، مما انتهى به إلى الاستقالة من الجيش، والعودة إلى قريته بمصر فى سنة 1912. وعاش فى تلك القرية، ناعماً بجمال طبيعتها، ومودة أهلها وأهله، متفرغاً للعمل فى زراعة أرضه التى آلت إليه من والديه، ومتفرغاً فى ذات الوقت لقراءة وكتابة الشعر الذى كان يعشقه ويهواه، غير أن سعادته هذه لم تدم، إذ سرعان ما أدركه سؤ الحظ من جديد، حين وقع فى منازعة مع وزارة الأوقاف، انتهت إلى تكبده بغرامة مالية كبيرة، اضطر ازاءها إلى بيع جزء كبير من أرضه لسدادها. وقد ظل بقية حياته يعمل لسداد باقى هذه الغرامة والخلاص من ربقتها، حتى مات فى 11 يناير سنة 1937. مات مريضاً معسراً حزيناً، لم يشعر بموته أحد، إلا بظهور نعى صغير فى جريدة الأهرام، ولم يكتب عنه أحد إلا الشاعر محمد النجمى الذى كتب فى رثائه قصيدة نشرت فى إحدى المجلات غير السيارة، جاء بها:

سائلوا  الشعـــر  إنه  ذاب  وجـــدا
حين  صـــــاح  النعىّ:  توفيـق أودى
مـــات  توفيـق  فالمعانـى  دمـــوعٌ
والقوافـى  محاجــــــر   ليـس  تهـــدا
ياهــــزاراً آوى  إلى  الحقــل  داراً
يصحب العيش فى الخمائل رغـــــــدا
غير بدعٍ وقد رعيت  مع  النحـل
زماناً  أن  تُرسل  اللحن  شهــــــــدا
إن  تغزلـتَ  فالحيــاة  ســــــرورٌ
يغمر النفس فى  مراحٍ  ومغـــــــدى
أو  تجهمـت  فهـى  ثـورة  قيــــظٍ
تملأ  القلـب  والجوانــح  وقـــــــــدا
أو  مدحـت  النبـى  كنـت  محبـــا
صَحَ  فى  حبه  ختاماً  ومبـــــــــدى
يا فقيد اليراع  والسيف  والفـــأس
وأورى  عباقر  الشعــر  زنـــــــــدا
إن  يومـــــاً  أجَــدّ،  بينــك  فيـــه
لهو  يوم  أسـاء  للفضـل  جــــــــــدا
لاعَـدَتْ  قبـرك  المواطــرُ  حتـى
يصبح  القفر  ياسمينــــــــــاً  ووردا
انمـــا   أنـت   للبيــان   شهيُــــــد
قتلته  عُجومـة  العصـر  عمـــــــــدا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مات توفيق فى 11 يناير سنة 1937 – ولم يطبع ديوانه إلا فى سنة 1998، أى بعد أكثر من سبعين عاماً من وفاته.


- وعن شعر توفيق:
استمر توفيق يكتب الشعر منذ كان ضابطاً فى السودان، ثم بعد عودته إلى مصر واستقراره فى ضيعته بالريف، ثم تفرغ له تماماً بعد اعتزاله للنشاط الزراعى على أثر الضائقه التى واجهها بعد منازعته مع وزارة الأوقاف. كان قد أصدر وهو فى شبابه ديواناً سماه ديوان توفيق، نشرت فيه مجموعة من شعره الذى كان قد كتبه فى صدر شبابه، وبعد عودته إلى مصر واستقراره فى الريف، كتب الكثير من الأشعار التى كان يبعث بها إلى الصحف والمجلات التى تهتم بنشر الشعر، كجريدة الأهرام، ومجلتى الزهور وسركيس، ومن خلال نشر تلك القصائد فقد نال شعره قدراً من الذيوع والانتشار.
- كتب توفيق قدراً كبيراً من الشعر، يقع فى خمسة دواوين كبيرة سماها: قفا نبكِ، السكن، تسبيح الأطيار، الروضة الفيحاء، ترنيم الأوتار، ولكنه لم ينشرها فى حياته، إذ ان موته المبكر - فى الرابعة والخمسين، وسوء حالته المالية، والصحية لم تسمحا له بذلك، رغم أنه كان شديد الرغبة فى ذلك، وأنه قام بنسخها، واعدادها للنشر، بل وعمل الكليشيهات لها.
وبعد أن مات والدى وأنا فى العاشرة من عمرى، وبدأ إدراكى لأهمية هذه الدواوين، ثم لأهمية المحافظة عليها من التلف أو الضياع، استطعت أن أصل إليها، وأن أضع يدى عليها، وأن أحافظ عليها على مدى سنوات طويلة، رغم أن حياتى لم تكن مستقرة ولا هادئة ولا آمنة.
كنت مضطراً لنقلها من بيت إلى بيت من بيوت أسرتى، حيث أننى لم يكن لى أنا نفسى مقر دائم ولا ثابت ولا مأمون، وحين وصلت إلى حالة من الأستقرار، أخذت فى نسخ هذه المخطوطات، على ورق أقوى، حيث أن أوراقها القديمة، كانت قد ساءت حالتها، بحيث كنت أخشى عليها من التلف أو التمزق، واستعنت فى ذلك بصديق كريم هو المرحوم الأستاذ عبد المنعم السعودى، الذى كان شاعراً، وكان له خط جميل، وعلى مدى عشر سنوات، استطعنا أنا وعبد المنعم السعودى أن ننتهى من هذه العملية، عملية اعادة نسخ هذه الدواوين، وإعدادها للطبع. ثم بدأت العملية الصعبة الطويلة، وهى عملية السعى إلى طبع هذه الدواوين ونشرها. استعنت بالدكتور ثروت عكاشة فى ذلك فأبدى قناعته بذلك، وبذل جهداً صادقاً فى تحقيقه، ولكن الأمر لم يكن فى يده، واستعنت بالمرحوم الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى، فتوسط فيه لدى الدكتور عز الدين إسماعيل، رئيس الهيئه العامة للكتاب، وأقتنع بالأمر وأصدر أوامره بتنفيذه، ومد الدكتور حسن فتح الباب يداً قوية لمساعدتى، وذلك بالعمل على حشد التأييد له فى لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، كما مد الصديق الأستاذ شريف عطية يداً كريمة فى ذلك أيضاً، وأخيراً فقد أصدر الدكتور جابر عصفور، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة حينذاك القرار المطلوب، ودارت العجلة، وانتهت بطبع الديوان ونشره فى عام 1998 أى بعد عشر سنوات من الموافقه على هذا النشر، وبعد سبعين عاماً على وفاة الشاعر. وكان من الطبيعى، وقد انقضت كل هذه السنين على موت الشاعر، أن يلقى ديوانه قدراً كبيراً من الإهمال.
كان ذلك عن الشاعر، وعن ديوانه، فماذا عن شعره نفسه؟.

عن شعر توفيق:
- تناول الدكتور حسن فتح الباب، فى مقدمته للجزء الأول من الديوان هذا الأمر، وهو تقييم شعر توفيق، فقال عنه إنه: شاعر من طبقة حافظ وشوقى، تجاهلته الحركة النقدية، ودلل على هذا الحكم بتحليل شامل لما جاء بالديوان من القصائد والأشعار.
- ومثل ذلك ما ذهب إليه الدكتور محمد عبد الله عباس فى مقدمته للجزء الثانى من الديوان استهلها بتلقيب توفيق بالضابط الشاعر والوطنى الثائر، وقام بتحليل شامل وعميق لهذا الشعر وهذا الديوان، فأشاد به، وبما حواه من قيم وذخائر وموضوعات ومشاعر قلما توافرت فى ديوان من الدواوين.
- نماذج ومقتطفات من شعر توفيق:
لا أستطيع أن أنقل صورة واضحة عن شعر توفيق، إلا بتقديم قدر كاف من النماذج، لهذا الشعر ولو بالإيجاز اللازم، وذلك على النحو التالى:
- نماذج على شعره: 1-  فى الشكوى مما حل به من مظالم:
يقول: –

هل من الحق أن تصادرنى  الأوقـاف
مـــا  لــى   وطَـارفـــــى   وتَلـيــــدى
وترينى  النجـوم  فى  الظهـر  حمـراً
كجراحى  فى الحرب - حرب الحدود
وأنـا  فــارس  الطليعـة  فى  الجيـش
وحـمّـــال   خـافـقـــات   الـبـنــــــــود
أو  من  العدل  أن  يهـون   صغـارى
بعد  عِزٍ  وبعـــد  عـيـــش   رغـيــــد
وأنـا  شاعــر  الحميـة  فى  الشـــرق
ونــــارٌ  على  العــــدو   اللــــــدود.!
وإلـى  الله  لا  إلـى  النــاس  أشكـــو
ما  أُلاقى  من   عاثــرات  الجـــــدود

- ويقول:

لا السيف فى مصر يُرضينى ولا القلمُ
كلاهمــا  فى  يمــين  الحُــرِّ  منُثلـــم
جّردتْ  سيفـى  واقلامـى  وبى  أمــلُ
واليـوم   أُغمدهــا  بأسـاً  وبى  ألـــم
بالله  ياسيـف  هل  ضُمـت  عليك  يــدٌ
فى الروع مثلُ  يدى - والهول يحتدم
وهـل  ســـواى  فتـى  زاتتـك  صحبتـه
إن  راح  يخفق  فوق  الجحفل  العلم
ويا  يراعـى  إن  الصمـت  من  ذهـب
لا  يسمعــون  وفى  آذانـهــم  صمــم
قد  يُسجـن  البلبلُ  الغريـدُ  فى  قفـصٍ
وينعَبُ  البومُ  فى  الآفـاق  والرُخـــم

2- فى التعبير عن موقفه الوطنى:

فلو أنمــا أبكى  على  عهـــد  موطــن
له  شَبهُ فى الأرض فى حُسنه المصبى
لخفت دموعى وارعوى فيض عَبرتى
ولكن  على الفردوس  والكوثر العــذب

- ويقول:
ومــا  مصــر  إلا  غـــادة   عربيــة
لها  الحُسن  عبدٌ   والدلال   غــــلامُ
تُغازلها شمسُ الأصائل فى  الضَحى
ويرنـو   إليها  البــدر   وهو  تمـــام
أحــــن  إليهـا  كلمـــا  لاح  بـــــارقُ
وغـــرّد   قمــرى،   ونــاح   حمــام
ويا  نيل  أسكرت  البـــلاد  وأهلهـــا
فريقك   فى   ثغر  الأنــام   مُـــــدام
وأسكرتهم  من  نشوةٍ  بعــد  نشـــوةٍ
وآخــر   سُكــر  المدمنيــن   سقـــام
ألم  تر أن الناس فى مصر عربــدت
فقــال   الأعــادى   سوقـةُ   وطغــام
فلـــو أننـا  بالدمــع  نمــزج  مــــاءه
لرق،    وبُلـــت     غُلـــــة    وأوام
ولـو أننــا  بالدمــع  نمــزج  مـــــاءه
لحــلّ   وأمــا   خالــــص   فحـــرام

- وعن عقيدته الوطنية والسياسية، يقول:

لا  تظنـــوا  بــى   الظنــــون   فإنــى
قانعُ   لا  أقول   هل  من  مَزيـــــد
أنا فوق  الأغراض أهتفُ  والأحزاب
لا    أسـتـريـــــح      لـلـتـقـيـيـــــد
لست  حراً،  ولا اتحدت  ولا  شايعت
إلا   قصـائـــــدى   ونشيـــــدى (1)
لا  أرى  مصـر  غيـر  حــزب   وإن
كنت  لسعـد،  ومصطفى   وفريــد
وخليــل،  وحافــظ،  وأبـى   الآيــات
شوقـــى   أميــــر   كـل   مجيـــــد
لا  أُبالـى  إذا  صدقــت   وأخلصـت
وأصلحـت،  ما يقول  حســــــودى

- ويقول فى التنديد بالانجليز، اعداء مصر ومحتليها:

شرف  الغادريــن   نقـضُ  العهــودِ
وعُلى   القاسطين  ظلم  الهنـود (2)
انمــا  الانجليــز  من  قــد   عرفنـــا
فى  أكاذيبهــم   وخُلــف  الوعـــود
طمعــوا  فى  رقابكــم   فاقطعوهـــا
واستريحوا  من  وصلهم والصدود

- وهو يدعو إلى الكفاح المسلح لطرد المحتل الغاصب - فيقول:

لو أطقنا  حمل الســـلاح لا نزلناكمــــو
كارهيـــن    خلــف    الحـــدود (3)
بظُبـــا    كلّ    أبيــض   مصقــــــــولٍ
فى  قفـا   كل   أشقـــر  رعديــــــد
وبحمـــر  الصـــدور  سمـــر  لـــــدانٍ
هزّهــا   كل  أسمـــر   صنديــــــد
وهو يتلهف على وجود جيش وطنى
قــوى يعتمد عليه فى تحرير الوطن
لهف  نفـس  على  خميسٍ   لهــــــــام
ترجف  الأرض  منه  حين  يثــور
يركـــــع  البغــى   لاثمــــاّ   قدميــــه
وتنجى   الصدورَ  منه  الظهــــورُ
وأساطيـــــل    بالقذائــــف    تغلــــى
كالبراكين   فى  البحــار  تثــــــور
إن  من  يستـَــــرِقُ شعبــاً   كريمــــاً
يستحق   الجحيــم   وهى   تفــــور
وأحق  الـــورى  بخـــــزىٍ   وإذلالٍ،
قـــوىّ   على  ضعيـف   يجـــــور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يقصد أنه لم يكن ينتمى إلى أحزاب السلطة، كالأحرار الدستوريين، أو حزب الاتحاد الرجعى.
(2) من قصيدة مطولة له عنوانها "دموع الجليد".
(3) من قصيدة مطولة أخرى له عنوانها "آلام الأمة وآلامها".

- ويقول فى نفس المعنى:

لا  خير  فى  فليحىّ  وليسقــــط   ولا
صخب  الشيوخ   وضجة   الأولاد
خيــــر  الســـــلاح  الحـــقُ  إلا  أننى
أجد   الحسام  العضب  خير عتــاد
لهفى على  جيش   يخوض  غمارهــا
متتابــع   الابــراق   والارعــــــاد
قالقاسطــون  على   ذليـل   جباههـــم
مستأســدون  لنــا  وأهـل  عنــــــاد
حمرُ  الوجـوه   خبيثــة   أرواحهــــم
زرق  العيون  نواعم  الأجســــــاد

- ويذكر جيشنا المصرى بكل حب وتقدير وفخار، قيقول:

جرّدونـــــا   لفتحــه   ثم    قالـــــوا
بعدمــا   تم  حجبنـــا  المبـروُر (1)
أيها  الجيــش  عُــد  بخفَىّ   حنيـــن
وهو  جيــشٌ  مظفـــر   منصـــور
وانقضى طوكرٌ  - وتُشكى -   وحلفا
وكُريــرى    وفركــةُ   والحفيــــر
وبحــارُ   من   الدمـــــاء    أُريقــت
بأسُنــــا   فى   كتابهــا  مسطــــور
وعــذارى  من  المنايـــا   وعُــــونُ
فخرنـــا   فى   جيوبهــم    عبيـــر
إن  أرادوك  بالمهانة  يا   جيــــش
بـــلادى،   وأنت   ليـثٌ  هصـــور
أقسمت  تِلكـم  المواقع  أن الهـــون
أولـى   بـه   اللئيــــم   الغـــــــدور
________________________________________
(1) يقصد الانجليز.
(2)  أسماء مواقع خاضها الجيش المصرى فى حرب استرداد السودان بعد الثورة المهدية، وشارك فيها توفيق فى عدد منها أثناء خدمته بالجيش المصرى بالسودان.


- وعندما أقيم الاحتفال بتكريم أمير الشعراء أحمد شوقى بالقاهرة، جاشت فى نفس توفيق مشاعر وخواطر شتى، متناقضة، متفاوتة، فعبر عنها فى قصيدة مطولة سماها "حظى، أو مثال من حظ الأديب فى الشرق - جاء فيها:

طالـــب  العــزمَ   بحــقٍ   مُقبـــــــل
وبدنيـــا    باطـــلٍ    لا    تحفـــــــلِ
وأصبرى يا  نفسى  إن  رُمت  العلا
أو فطيرى  عن  ضلوعى  وارحلـى
واصرفـــى   الهــم   ففــى   ادمائــه
ذبحةُ   الصـدر  وحَــزُّ  المفصـــــل
شعــراء   العصــر  تيهـــوا   بـــأبٍ
كلنـا  منـه  حسيـــن  أو  علـــــى (1)
يا عذارى  الوحى  من  فردوسهـــــا
لسمــاء   النيــل  تهتـــز  انزلـــــــى
وارقصى  فى  مهرجــان  شائــــــقٍ
عالـــمَ   الإعجـــاز   فيـه  مثلـــــــى
طربـى  فى  ساحتيـه  واصفــــــرى
غـردى   فى   روضتيـه   واهدلـــى
واشهدى  للشرق  عُرسـاً  زاهـــــراً
عن  عكــاظ  فى  مجاليـه   سلـــــى
زفــت   العليــاء    فيـه    ناهـــــــداً
لأميـــر  الشعر  فى  أبهى  الحلــــى
.....
__________________________________________
(1)     نجلا أمير الشعراء.



- ثم يقول:
أنشـأت   مصـر   تناغى   أهلهــــــا
فاسمعوا  مُطرب  صوت  البلبــــل
جــذل  تكريــم   شوقـــى   إنمـــــــا
بحياتى،   ضاعفـــوا  لى  جذلــــى
أكرمـــوا   لى   عبقريــاً   منكمــــــو
يمنــع  النيـل  بسُمــر  الأســـــــل
لا   أرى    رب    يراعٍ    بطـــــــلاً
مغنيـاً  عن  رب  سيف  بطـــــــل
.....

- ثم يقول:
سمعــت   مصـر   حديثى   فبكــت
قلت  يا  أم   الرجال  استرجلـــــى
.....
فاستـــرابـت   وأدارت    مقلـــــــة
بسوى   نياتهم   لم   تكحـــــــل (1)
فكأنــى   أُشــــــرعتْ    هنديــــــةُ
لـى  من  عينـىّ  مهـاة  مطفـــــــل
قلت  روحى  لك  يا مصر  فــــدى
سامحينـى،   عانقينـى،   قَبِّلــــــــى
وانتشينـــا    فتلاقينـــــا    علـــــى
نعمة  الحـب  وغيـظ   العُــــــــزَّلِ
.....
____________________________________________________
(1) أى نيات المحتل الانجليزى – السوداء.


- ثم ينتقل إلى موضوع آخر، هو الشكوى مما أصابه من الأذى على يد وزارة الأوقاف، بادئا شكواه بقوله:

قلمــى   قـــــــد   عقنـــى   كل    آخٍ،
وحميـم  فــارث  فى  المحنـة  لــــى
واحملـى  يا نفسـى  محتـــوم   الأذى
واصنعى  ما شئت  إن  لم  تحملـــى
نصـــفُ  ألـفِ  كل  عــام   ذهبـــــــاً
للتكايـــا،   من   أديــب   مُعيــــــــل
من  شقــى   شاعـــــــرٍ  مستفلــــــحٍ
من  دموعٍ،  من  نقيع  الحنظــــــــل
من بـــرئ،  من   دمٍ،  من  عـــــرقٍ
من  خــرابٍ  كامـــلٍ   مستعجــــــل
من  شهيــــــد  ضابــطٍ   مضطهــــد
فى   هــوى   أوطانــه   مستقتــــــل
حينمــا   السيـــــف   بكفيـه    نبـــــا
حــارب   اليـأس   بحــدِّ  المنجـــــلِ

- ثم يقول:

أنت  يا  أوطــان   أهــــراء   الغنـى
لــمَ   حظـى  حبـةُ  من   خـــــــردل
أنا   يا  نيـــل  محــب   صــــــــادق
فانسنى  أذكرك   وأهجر  أوصـــــل
أنت   يا  مصــر  فتـاة   حسنهـــــــا
يبعث  الوجد   إلى   قلب   الخلـــــى
فانثــرى   من  خــدك  الورد علــى
لؤلؤ  من  عَبرتى،   لا  تخجلـــــــى
رَبِّ   بـــــارك   فى  الآلى  إنهـــا
ثروتـى   فى   كل   كـربٍ   يَبّلــــى

- ثم يقول:

قلمــــــى،  مــا  أنتَ  منى  أو  أرى
قمة  الإرهــاق  تحـت  الأرجـــــــل
فانقـــض  الباطــــــل  من  آساســـه
شردّ   الاجحــاف   عنى   جَنـــــدلِ
قلقــل  الصخــرةَ   من  مَقلعهـــــــا
صخرة   الظلــم،   صفاة   الخجـــل
..
قلمى  قد  قامـــــت  الحــرب  على
ساقهــا،   فاهتز   رُمحـــاً   واحمـــل
دولــةُ  تسلُــــــــب   من   أبنائهـــا
شاعــراً  فاعجـــب   لبأس   الــــدول
أمــةُ   تنهــــب   منــى   رَجُـــــلاً
واحـــداً،  فاغضـــب  لهذا  الرجــــل
يغضب  الايمــــان  والكفر  معــاً
لأذى  الحــــــــر  وضيــم  البطــــل!
..

- وينهى قصيدته بقوله:

رب  سامح  مصر  واغفر  ذنبهـا
واهدهـــا   للرشـــد  فى   المستقبــــل
وأعضْنى   عن  تراثى   نُــــــزلاً
من  هواهــــا  صالحــــاً  لم  يُنــــزل
فقليــل   شقوتــى   فـى    حبهــــا
واحتمالــى   كـل   غُـــــرمٍ   مثقـــــلِ
وقليل  فى  هواهـــــــا  ناظـــرى
ودراريه،   وفصـــدُ   الأكحــــل (1)
فهى  ريحانى  وراحى  والصِبـــا
وشبابــــــى     وحبيبـــــى     الأول
وهى  أبنائـــــى   وأمــى   وأبــى
وهى   ظلـى   الزائـــل   المنتقـــــل
وقليــل  فى  هــــوى   أوطاننــــا
مــا    بذلنـــاه    ومالــم   نبــــــــذل
.....

- وفى خضم هذه الأمواج المتلاطمة من المصاعب التى كان يواجهها، وبالرغم منها، كان توفيق يجد القدرة على أن يعيش فى الطبيعة المحيطة به، ويتعامل معها، متأملاً مفكراً، متذوقاً لجمالها وجلالها.
- ويقول فى وردة:

أيـن   يـــــــا     وردةُ      كنـــــتِ
قبــــــل      هــــــذا     الابتســـــــام
يا   طبيعيــــون    من     ألبسهــــا
لـــــــــــــون           الضِـــــــــــرام
أعقيقٌ   سال   تحت     الجــــــذع
أم       كــــــــأس       مُــــــــــــــدام
أم   زعمتم   أن   ذوب    التبـــــر
فـى       مــــــــاء        الغـمـــــــــام
كبريـــــاء     وَرث     الأحيـــــاءُ
عن    حـــــــرث    الرجـــــــــام  (2)
أيهــا     البلبــــــل      تسبيحــــــاً
وذكــــــراً      يــــــــا      حـمـــــــام
وضـــــح    الصُبــح     لـــــــذى
عينيـــن     وانجـــــاب     الظـــــلام

- ويقول عن الماء فى قصيدة عنوانها: الماء والخمر:

فصفِّـق  أباريـق  الغمـام   وهاتهــــا
زلالاً   فنفسى  أوشكت  تتضــــــرمُ
إذا رقرقت فى  الكوب ألفيت  فضـة
تدفق   أوذوباً   من   الدُر   يُسجــــم
يقطرهــا   الدن  الحـلال   كأنمـــا
يرن  رنين العود  فى  كل  قطــرة
تتابعهــا  عقــد  من  الــدر   يُنظــــم
كــأن   قيانـــاً    تحتـــه    تترنــــــم
فيا  ماء  سِرُّ  الحسن  أنت  ومنشأ
الجمال ونور الدهر والدهـر  مظلــم
وأنت حملت  العرش  والله  فوقــه
ولم  تك  أفـــلاكٌ،  ولم  تك  أنجــــم
وشتان  بين الماء  والخمر فى فــم
ولكن   ذا  حِــــلُّ،  وهذا   محـــــرّم
مضى الحق إلا ساعةُ الموت إنهـا
ستنقض  ما  يبنى  الضلال  وتهْــدِم
___________________________________________
(1) شريان فى اليد، إذا جرح لا يرقأ دمه فيسبب الموت                    (2) حرث الرجام - يراد بها الموتى.


- وفى نهاية هذا العرض لمقتطفات من شعر توفيق، ننتهى إلى شعر الغزل، ويحتل هذا الشعر الغرامى حيزاً كبيراً من ديوان شعره، فتوفيق من أكبر شعراء الغزل فى عصره، ومعظم قصائده الغزليه والغرامية قد كتبها فى حب الآنسة مىّ زيادة، زهرة أديبات عصره وعصرها، والذى كانت تربطه بها علاقة ود متبادل، وحب طاهر عفيف، وها أنا أورد هنا مقطوعة من شعره الذى قاله فيها، ووردت فى الجزء الأول من ديوانه بعنوان: شُمى نسيمك:

أذاع   غرامــه   فغــــــدا   شهيـــــرا
وصاحب  فيك  قلبــاً  مستطيـــــــرا
وما  بالــــــى  أرى  دمعى  غزيــــراً
وكنـت  عَهدتُــه  نــزراً  يسيــــــــرا
أذلّنـــى  الغــــــــرامُ   وكنت   ليثــــاً
ولســت  أزال  وثابــاً  هصـــــــورا
إذا  الآســـاد  يــــوم  وغــىً  رأتــــه
علـى  أعقابهــا  ولــت  نفــــــــــورا
خُذينـى  بالدلال  الحلـــــــو   أحيـــــا
بـه  لأعانــى  الهـــم  المريــــــــــرا
ولا  تتسلحــى   بالهجـــــــر   إنـــــى
لبســت  لحـــدّه عمــراً  قصيـــــــرا
غداً  شمس  نسيمــــــك  واذكرينـــى
بقلبك  تذكُـــرى  بـــراً  شكـــــــورا
لعيـــن  وفائـه  ماعــــــــاش  لحــــظ
يظــل  إلــى  محاسنكــم مشيــــــــرا
إذا  روح  الشمال   ســـــرى   إليـــه
تنســم   من   شمائلكـم   عبيــــــــرا
ولا   هبت   لكم   يومــــــاً   جنوبــــاً
فما   حملت   لكـم   إلا   زفيــــــــرا
.....
سلى  زَهــــرَ  الريـــاض   وناشقيـه
وشاربهــــا  هنـــاء    والمديــــــــرا
أغيَــــر  الحُــــب   أنشقـه   زكيــــاً
وغيـرَ   الدمـعِ   أشربـهُ   طهــــورا
سقى   تلك   الغـداة   الــدمع   وبــلاً
يغـادر   عهـد   ذكراهـا    نضيـــرا
وقفت  لكـى  أراك   وكان   يومــــاً
على  كبدى  التى  ذابت  عسيــــــرا
تلفــتَّ  إذ   طلعــت  إليــك   قلبــــى
وحاول من  ضلوعى  أن  يطيـــــرا
ولـــولا   أننـى   أمسكـت   دمعــــى
لأجــرى  فى  محلتكــم  غديــــــــرا
وكانت   نظـــرة   قتلـت   جريحــــاً
وشــدت  فى  سلاسلهـا  أسيـــــــــرا
وهاجت  لوعة   فى   صدر  صــبٍ
وزادت  نــار  ولهــانٍ  سعيـــــــــرا
.....
وكم   يوم   عزمـــتُ  على   لقــــاءٍ
أُعين   به  عى  الشجو  الضميـــرا
ولكــن   لا   يطاوعنــى   حيائـــــى
وعزمُ   كنت   أحسبه   طريــــــرا
أتثبــت   بى  على  الأفلاك   رجلـى
هبى   لى  قبلها   جَلَداً    كبيــــــرا
سقــــى   أكنــاف   دارك    بابلــــىُّ
من  الأنواء  ينبتها  الســــرورا (1)
وعــــاج   على   مغانيكــم   ولــــىّ
من  النعماء   يوطئك   الحريـــــرا
منـــازلُ   شَمسهــا   تُحى   فــؤادى
ويمــلا   بدرهــا  عينى   نــــــورا
___________________________________________________
      (1)    أكناف الدار هى ما يكتنفها ويحيط بها من الأراضى والساحات والحدائق.

ــ  والبابلى من الأنواء - الأمطار التى تكون من الجمال بحيث تكون محملة بالعطر والسحر، وكأنها تأتى من تلقاء أرض بابل السحرية.
ــ  والولى - المطر الثانى أى الذى يلى الوسمى - يتمنى لمنازلها مطراً ثانيا يجلب لها من الخير ما يجعلها من الثراء بحيث تطأ الحرير بقدميها.