قصة قصيرة "السور"

قصـة قصيــرة

الســـــــور (1)


فى اللامكان واللا زمان، على الحجاب بين الجنة والنار، حيث لا بداية ولا نهاية، ولا شئ منذ الميزان والحساب إلا هذا السور بلا أول ولا آخر.
على يمينهم أصحاب الجنة وعلى شمالهم أصحاب النار، وهم فى مقامهم هذا على الحجاب لا أنيس لهم إلا عدم الفهم، ووطأة الحيرة أمام الإحساس الدائم بالرغبة فى معرفة الحقيقة.
- من نحن ؟
- لماذا لا يوجد من يفسر لنا هذا اللغز ؟
- أسمع أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ينادوننا بقولهم يا أصحاب الأعراف.
- الأعراف ؟
- هكذا تنادينا القلة الناعمة عن يميننا والكثرة المعذبة عن شمالنا.
- لكن من نكون ؟
- وما هذا السور بلا بداية ولا نهاية ؟
وتنتهى الأسئلة الكثيرة إلى صمت ثقيل لا تسمع فيه غير همهمات غير مفهومة، إلى أن يرتفع من الكتلة الهائلة المضطربة صوت يقترح نظرية.
- لعلنا من تساوت حسناتهم وسيئاتهم ؟
لكن صوتا آخر يرتفع وهو يشير تجاه نعمة أصحاب الجنة:
- بالميزان الذى شهدناه يوم الحساب كان يجب أن أكون مع هؤلاء .. أبدا لا تساوى سيئاتى حسناتى .. رذائلى قليلة وخطيئاتى معدودة .. طوال حياتى كنت ملتزما بالعبادات والخيرات والطاعات.. عمرى كله أنفقته مبتعدا عن المعترك، نائيا عن مد الحياة وجزرها.. ما عبأت يوما بما يدور حولى من شئون الحياة الفانية التى شغل بها أهل زمانى أنفسهم وانقسموا بسببها فرقا وشيعا وجبهات.. لملمت ثيابى ومشيت لصق حوائط الحياة متعوذا ومتهربا من الواقع.. أبدا لا تتساوى سيئاتى وحسناتى.. وأنا منذ فرزونى وصنفونى وتركونى هنا معكم لا أفهم.. لا أفهم..
ووقف آخر وأشار تجاه نقمة أصحاب النار:
- الحق ما يقول الرجل.. وعن نفسى أنا كان يجب أن أكون مع هؤلاء بخطيئاتى وأوزارى.. أن الالتزام الوحيد الذى عشت به عمرى الدنيوى كان مصلحتى الشخصية دون نظر إلى حقوق الآخرين.. نزلت إلى المعترك بفلسفة واحدة هى أن أسبح مع مد الحياة وجزرها مقتنصا الفرص، ولم يكن عندى ميل للتفكير فى الآخر، ولا كانت الدنيا عندى بحلاوتها وملذاتها معبرا فانيا.. كنت دائما مع فريق المصلحة وضمن جبهة الانتفاع.. وحسناتى القليلة تغرق تائهة فى خضم سيئاتى.. وأنا منذ فرزونى وصنفونى وألقوا بى معكم فى دهشة ما بعدها دهشة.. لا أفهم.. لا أفهم..
وقع صمت ثقيل العمق قبل أن يرتفع صوت آخر.
- نريد أن نفهم ما هى بدايتنا وما هى نهايتنا ؟
من فوق رءوسهم مرق صوت مكبر يحمل سؤالا من أصحاب الجنة لأصحاب النار:
- يا أهل الجحيم! لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟
حبس أصحاب الأعراف أنفاسهم فى صدورهم فى انتظار الرد الذى مرق من فوق رءوسهم فى الاتجاه المضاد:
- ألا تدعوننا فى حالنا؟ .. أو ليس أزكى لكم أن تفيضوا علينا مما عندكم من رزق؟
طغى على أصحاب الأعراف شعور أليم بالإحباط وهم يسمعون هذا الحوار يتشكل من فوقهم غير عابئ بوجودهم.. هل يعتبرهم هؤلاء وهؤلاء كما مهملاً لا وزن له؟
عادت الأصوات تتشابك بين اليمين والشمال:
- لا حق لكم فى شئ من هذا يا حطب جهنم.
- الفائض عندكم كثير، فأنتم قلة فى وفرة، ونحن فى حاجة إلى ماء.
- الفائض؟.. الآن تتكلمون عن الفائض.. ألم تكن الدنيا تسيل من تحتكم أنهاراً، فهل كان فى تقديركم حساب يومكم هذا وأنتم تنعمون وتنهلون؟
تدفقت من الأعراف ضراعة تجاه الجنة:
- يا أهل الجنة سلام عليكم.
   لا رد.
- سلام عليكم، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
لا رد.
- لماذا لا تردون تحية من يطمعون فى أن يأتى يوم تمسهم فيه الرحمة فيكونون معكم ومنكم؟
لا رد.
صرف أصحاب الأعراف أبصارهم الحسيرة تجاه أصحاب النار.
- وأنتم أيها القوم الظالمون، ألا تردون أيضاً؟
جاءهم الرد مكبرا من جبهة الجحيم:
- لماذا نرد عليكم ونحن نسمعكم تسألون الله ألا يجعلكم فى النهاية معنا؟
- أيها الظالمون المستكبرون، ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون.
- كفوا عنا فحيح شماتتكم وعودوا إلى التمسح فى المهتدين الذين لا يفارقكم الطمع فى صحبتهم رغم استعلائهم عليكم.
وعلى الأعراف ارتفعت أصوات متذمرة:
- دعونا من هؤلاء وهؤلاء وعودوا بنا إلى السؤال الذى ليس بعده سؤال.. ما هى حكايتنا؟.. من نحن؟
وقال أحدهم لصاحبه الذى يبدو كتمثال للحزن:
- كيف نصل إلى فهم لهذا الوضع الذى صرنا إليه على نحو يبدو أنه مؤيد؟
لم يكن صاحبه أقل حيرة منه:
- قد نصل إلى شئ من الفهم إذا حللنا ما نذكره من أحوالها عندما كنا على وجه الدنيا.
- على وجه الدنيا؟.. كنت من كبار المسالمين.
- ماذا تقصد بهذه الكلمة، مسالم؟
- لا أذكر أن تصرفا أو رد فعلى لى أغضب منى أحدا من الناس.
- حتى كلماتك لم تكن تغضب أحدا؟
- كنت صديق الجميع.
- لكأنك تتكلم عنى أنا الآخر، ولعلى قلت لك مرة أننى كنت فى عصرى من المشهورين بهذه البراعة فى تفادى أى موقف يغضب أى إنسان.
- فى مثل العصر المضطرب القاسى الذى عشت فيه لم أجد سلاحا لشق طريقى فى خضم الحياة الصعب غير هذا المنهج الهروبى.. أن أكون دائما لا مع ولا ضد أى إنسان أو فكرة أو حدث أو منعطف مصيرى.. أى خطأ فى هذا؟
قال له صاحبه بعد سكتة قصيرة:
- لا أعرف.. وأريد أن أعرف.. أريد أن أعرف من نحن ولماذا نتجمد فى هذا المكان الغريب الذى لا هو مع الكثرة الشقية ولا هو مع القلة الناعمة.
تفكر الآخر لحظة قبل أن يتكلم:
- لابد أن هنا من يستطيع ويملك الحق فى أن يقدم لنا الإجابة الشافية عن علامة الاستفهام الكبيرة هذه.
- من؟ وأين نجده؟
تطلعا حولهما فلم يجدا غير ما ألفت أبصارهما رؤيته من الجموع التى تملأ السور رائحة غادية، فى استسلام كامل، إلا قلة من بينهم كانت كلما صادفها باب من الأبواب الضخمة الموصدة أخذت تدق عليه بقبضات الأيدى، فلا ينم عن الدق صدى ولا يجدون له رجعا.
لا شئ غير الكتلة الهائمة بحيرتها واكتئابها كموجات بعد موجات من اللا معنى.
سارا طويلا وهما يتحاوران ساعة ويصمتان أخرى، حتى وجدا نفسيهما عند أحد الأبواب، ولأول مرة تشكلت لأحدهما إرادة موقف:
- تعال ندق هنا بقبضات أيدينا.
- قد يغضب هذا أحدا.
- وبصرخات الحناجر أيضا لعل لها مفعولا.
- هل أنت واثق أن هذا لن يغضب أحدا؟
- فى نهاية الأمر، لابد للسؤال الكبير من إجابة تريح.. أصرخ ودق معى، دق يا إنسان.
برح بهما التعب وسقطا على ركبهما واشتكت منهما الأيدى والحناجر وأقعيا فى يأس لدى الباب، لكنه لفرط دهشتهما ما لبث أن انفتح فجأة وظهر فى فراغه صاحبه الهادئ المضئ، فلم يصدقا نفسيهما وانبعثا واقفين فى رهبة.
تأمل صاحب الباب ارتعاشهما وقال لهما فى رصانة:
- ماذا تريدان؟
- نريد أن نفهم.
- هذا موقف.
- نعم ؟ !
- لأول مرة تشكل لكما موقف.
- موقف ؟ !
- أجل، موقف.
- نرجو ألا يكون هذا خطأ جسيما؟
جاءهما صوت صاحب الباب رائقا ومبطنا بالتسامح والترحاب:
- الدق على بابى بالسؤال موقف.
قال الرجل الثانى وهو يعانى من رجفة شديدة:
- تقبل اعتذارنا وأسفنا واستعدادنا الكامل للتراجع، فلم نكن نقصد أبدا أبدا أن يكون لنا موقف أى موقف.
كست وجه صاحب الباب ابتسامة غامضة:
- فى هذه الحالة أوصد بابى فى وجهيكما، فإن هذه الأبواب لها مفاتيح مقدرة.
- أية حالة؟
- حالة كونكما لم تقصدا أن يكون لكما موقف.
فى اندفاع قال الرجل الآخر:
- بل أردنا.
- هل أنت واثق؟
- نعم، أردنا أن نستمع إلى رد شاف.. هكذا أردنا.. هذه هى إرادتنا.
بشئ من الارتياح تأمله صاحب الباب:
- فى هذه الحالة يظل الباب مفتوحاً ويظل التحاور متاحا.
- ما هذا الوضع الذى وجدنا أنفسنا عليه ونحن هذه الكثرة؟
قال صاحب الباب دون أن تغيض الابتسامة من وجهة:
- ترى أنكم تزيدون أضعافا عن أصحاب الجنة، وأن كثرتكم تكاد تضاهى حجم أصحاب النار أو لعلها تزيد، وأحب أن تعرف أننا سعداء بخروج بعضكم من حالة الاكتئاب المذعن أو الإذعان المكتئب التى خيمت على جمعكم منذ وجدتم أنفسكم فى هذا المقام، على الأعراف.. نحن سعداء حقا بهذا التحرك إلى الفعل الذى بدأ يصدر عن بعضكم والذى أكدتماه الآن بالدق على الباب.
قال الرجل الثانى فى استبشار:
- حقا؟ .. لشد ما كنا نخشى أن يثير سلوكنا غضبكم.
قال صاحب الباب:
- على العكس.. إن لهذا الفعل دلالته المبشرة.
قال الرجل الأول:
- هل تتكرم بإيضاح لسبب هذه السعادة؟
قال صاحب الباب:
- إن هذا النعيم المقيم عن اليمين هو ثمرة موقف، كما أن هذا العذاب الأليم عن الشمال هو أيضاً ثمرة موقف، أما أنتم فقد كان موقفكم فى الحياة ألا يكون لكم موقف.
  هذه هى خطيئتنا إذن؟
- هى خطيئتكم التى تدفعون ثمنها ... إن الذى وضعكم حيث أنتم هو هذا الهروب من الاختيار الحاسم .. اخترتم ألا تختاروا .. اخترتم أن يكون وجودكم فى اللا وجود.
بعد صمت عميق انبثق سؤال الساعة:
- وما العمل الآن؟
تهلل صاحب الباب للسؤال:
- ها هى كلمة العمل تجيش فى نفوسكم وتتردد على ألسنتكم .. وإنها لبشرى طيبة أن تتشكل لكم آخر الأمر هذه الكلمة.
- تقصد أن هناك أملا لنا ؟
- بكل تأكيد.
- متى؟
ابتسم صاحب الباب:
- تعرفون من قانون الأبدية أن ما كنتم تسمونه المستقبل يمتد هنا ملايين وملايين من السنين التى كنتم تحسبون بها الزمن على عهدكم بالحياة الدنيا، والمهم الآن هو أن تنضجوا لجزاء أفضل من هذا المقام الباهت.
متى ؟ متى هذا الموعد ؟
قال صاحب الباب وهو يختفى هادئا مضيئا ويرد الباب فاذا هو موصد كما كان:
  عندما تشيع فى كتلتكم الكلمة ويتحدد لجمعكم موقف.

____________________________________________________

 (1) السور هى واحدة من اخر القصص التى كتبها سعد مكاوى، والتى تضمنتها مجموعة "كلمات فى المدن النائمة" التى صدرت بعد وفاته،  وفى هذه القصة تبدو الخصائص التى أستقر عليها أدب سعد مكاوى  فى المرحلة الأخيرة من إبداعه، سواء من حيث الشكل، أو من حيث المضمون.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق