كمال عبد الحليم - بقلم الشاعر: محمود توفيق


كمال عبد الحليم هو زميلى ورفيق صباى، وهو رفيق نضالى على مدى شطر كبير من حياتى،.
وعنه كإنسان أقول: ولد كمال فى قرية كوم النور مركز ميت غمر مديرية الدقهلية لأسرة ريفية رقيقة الحال ولكنها مهتمة بتعليم ابنائها، وقد كان كمال تلميذا نابها فى دراسته الابتدائية والثانوية، وقد قضى معى فى مدرسة حلوان الثانوية بالقسم الداخلى، سنوات طويلة، ونال الشهادة التوجيهية من مدرسة شبرا الثانوية فى سنة 1944، ثم التحق بكلية الحقوق - جامعة القاهرة، وتخرج منها عام 1950.
- تفرغ كمال للعمل - كمحترف ثورى فى المنظمة الشيوعية الأكبر فى مصر، وهى الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى، كما تفرغ لكتابة الشعر، ولم يعرف العمل العادى بشكل حقيقى حتى مات.
- تعرض كمال - كشاعر ثورى، وكمحترف ثورى، للسجن والاعتقال، والتشرد، عدة مرات، وقضى فى ذلك - وفى السجون والمعتقلات، وملاجئ الهروب والاختفاء، الشطر الأطول من حياته.
- وعنه كشاعر:  أنه تعلق بالشعر منذ صباه الباكر، وبدأ فى كتابته منذ أن كان تلميذاً فى المدرسة الثانوية، ثم بدأ فى نشر أشعاره، وهو مازال طالباً فى كلية الحقوق بالصحف والمجلات اليسارية، كالفجر الجديد، والجماهير، والملايين، وأم درمان - وغيرها. وقد استقبل الناس، وخاصة جماهير اليسار أشعاره بحفاوة بالغة منذ بدأ فى نشرها فنال بذلك شهرة واسعة - كشاعر وطنى وثورى واعد.
وقد عانى فى أواخر حياته الكثير، نتيجة لسوء أحواله المعيشية، ولعزلته السياسية والاجتماعية إلخ.
نشر فى شبابه ديواناً اسمه إصرار، ثم بعد ذلك - فى أواخر حياته  وبعد أن تجاوز الثمانين من عمره - أصدر له المجلس الأعلى للثقافة فى سنة 2007 ديواناً بأعماله الشعرية الكاملة، وهو ديوان كبير، صدر بمقدمه كتبها الشاعر محمد الفيتورى.
- ويعتبر شعر كمال عبد الحليم - من أغزر وأحر الشعر الذى قرأه الناس فى أواسط القرن العشرين، فهو يتميز بالغزارة والبساطة والحرارة والتلقائية وذلك سواء فى شعره الثورى أو شعره الغرامى.
وديوان كمال موجود ومتاح، ولكننا نكتفى هنا للتعريف به، بايراد بعض قصائده، أو بمقطوعات منها.
- فى الشعر الثورى:
يقول كمال عبد الحليم فى قصيدة عنوانها "نحن فى السجن"، كتبها وهو سجين بسجن الاستئناف فى سنة 1947 وهو فى الحادية والعشرين من العمر، إذ كان ممن قبض عليهم فى حملة صدقى الشهيرة:
نحـن  فى  السجـن  وللسجـن  ظــلامُ  وغيـــــومْ
وعلى الأوجـه  فى السجــن  تهاويــل  الوجــــوم
أيهـــا  العالـــم  هل  أنــت  بعيـــــد  أم  قريـــــبْ
هـذه  الجــدران  تدعـــوك  -  ولكـن  لا  تجيــــب
نحن  فى السجن  وتحت  الشمس  أنصار الظــلام
هــم  أرادوا  أن  يظـل  الشعـب  عبــداً  يستضــام
وأردنــا  أن  يعيــش  الشعـــب  حُــراً  لا  يضـــام
ولهــذا  –  فلنــا   السجــــن   جــزاء   وانتقــــــام
ولهــم   تنصـب  رايــــات  واعـــراس   تقـــــــام
أيها   الشعب   تمــرد  ..  أفلا   تُبصر   قبــــــركْ
ها  هو الخنجر  فى  قبضة   من  مزق   صـــدرك
موكب   الأحـرار  أنصـارك   للسجن   تحــــــرك
فتحــرك  أنت  يا  شعـب  لكى  تهــدم  قبــــــــرك

- ويقول فى قصيدة اسمها "هجرة":
تحت  هذى  السمـاء  جبن  وفقــــرُ           فتعالــــوا   إلى   بــــلادٍ   بعيـــــــدة
حيث  تحت  السماء  قــــوم  أرادوا          ثم   دانت   لهــم   حيــاة   سعيــــــدة
..
يا  رفاقى  جوانب  الكهف  ضاقـت          ورمت  بالألــوف   إثر  الألــــــوفِ
من  شيوخٍ  على  الطريق  عرايـــا          ونساءٍ  يسرْن  طـوع  الصــــــروف
وصغـارٍ  عمــاد   جيـلٍ   جديــــــدٍ          ذابلى  العود- فى انطواء  الطيــــوف
يا رفاقى  أرى  ضِياع  لصــــوصٍ          وشئـون  القضـاء  ملك  الضيـــــوف
إن  حز  القيود   أدمى   الأيـــــادى         وصـراع  القيــود  دأب   العيــــــوف
...
يـا  رفاقى  ولست  أعنى   معافـى        فى  بلاد  بها  المــلايين  مرضـــــى
أدخلونا  السجون  كُرهاً -  وعاثوا        ينشرون  الفســاد  طولاً  وعرضــــا
بعضُ  هذا  الشقـاء  عــارُ  علينــا       كيف طعم الحيــاة  تُفرض  فرضـــا
كيف  نشقى   وفى  البلاد   كنـــوزٌ -        هل  زهدنا  الثــراء  مالاً  وأرضــــا
ليس جوع  الجياع   صومـاً  ولكـــن          كل من جـاع  مثل من  باع  عرضـا
...
يـا  رفاقى  وفى  العيـون  دمــــــوعُ         ذلك  الدمــــع  لـــو  يَصيرُ  دمـــــاءَ
إن لون  الدماء  أشرف  للأحــــرار-         إن  عُذبـــــوا   فرامــــوا  الـــــدواء
هذه  العين  كـــم  رأت  مخزيـــــاتٍ         فى  قصورٍ -  وفى  كهوفٍ  شقــــاء
كلما  ساءلـــت  عن  السِـرّ  تبغــــى          أن ترى  النور  جرّعوها  الرضــــا
يا رفاقى  وقد  سئمت  الرضـــــــــاء        لست  أقـوى  على  الشقــاء  بقـــــاء
...
يا  رفاق   الشقاء  هل   من   مريــــد        لنــــزوح   إلى   بــــــــلادٍ   بعيـــدة
حيث  تحت  السماء  قوتُ  وستـــــر-        وحيــاة   يقــــــال   عنهـا   سعيـــدة
بل  تعالوا  نُحطم   الصنــم   العاتــــى       ونبنـى   هنا   الحيـــــــاة   الجديـــدة

- وفى ديوان كمال العشرات من القصائد الثورية، التى تدور حول نفس هذا المحور، وإن بصيغ وأشكال متنوعة. وموضوعها هو الظلم والاحتجاج والثورة عليه. ولكن فيه الكثير من الشعر الإنسانى والعاطفى والفلسفى الرائق المبدع.
- وإلى جانب هذا العبوس والتجهم الثورى، هناك فى شعر كمال تيار آخر، تيار كبير يفيض بالرقة والعذوبة والنضاره، وهو تيار شعره العاطفى الغرامى. ذلك الشعر الذى صاحب شبابه والذى كان موجهاً إلى فنانه شابة موهوبة. هى الفنانة المغنية فايدة كامل، ثم بعد ذلك إلى فنانة موسيقية ثورية هى ميمى كانيل التى تسمت بعد ذلك بأسم "ماجدة" ثم تزوجها وعاش معها زمناً قصيراً، ثم دخلت السجن وقضت فيه خمسة أعوام، ثم نفيت خارج البلاد بعد الافراج عنها، وذهبت إلى البرازيل وعاشت بها، ولم يرها هو بعد ذلك أبداً.
- يقول لمحبوبته فايدة كامل:
جمعتنــا   قداسـة   الفــن   لكـــــن             فرقتنـــــا    طبيعــة     الانســـــان
أنـت   فنانُــة   فكيــف    تُرائــــين            وتغضـــــين  عن   هــوى   فنــــان
انمــا   الفـن   فـورةُ    وانطـــلاقٌ              وخــروجٌ   من   عالــم  الكتمــــان
فى  أغانيك  ما  يجيـشُ   بِشعــرى             ويثيـر  الحيـــاة  فى   وجدانـــــــى
مثل  هذا  الغناءِ  لم   يسمع  الكـون             ولــم    تنفــرجْ    بـه    شفتــــــان
حين أُصغى إليك  أصغى  لصـــوتٍ            من  كيانــى  يهزنى  من  كيانــــى
حين  أصغى  إليـك  يهتـف  قلبــــى            وهـو  نشــــوانُ:  هـذه  ألحانــــــى
إن شِعـــرى   قبستـُه   منـــــك   لا            أدرى  لمــاذا  يفيض  عبر  لسانــى
أنت  إن   شئت  سال  عذبا   رقيقـــا           وإذا  شئــت   ثــار  كالبركــــــــان
وإذا  شئت  فار  كالنبع ،  كالنــــور           رفيقـــاً   فى   راقـــــص   الأوزان
وإذا  شئـت   لم  يفـض  وتـــــوارى            عن  حياتـــى  ولاذ  بالعصيــــــان
أنت  لحنى   فكيف  أُحـرم   لحنــى            كيف  أحيـــــا  فى عالم  الحرمــان
...
ذلك  الحُب  ضج  من  وحشة  القيــد          أمـا   من  هــوى   بـلا   جـــــدران
انما  الحب  منبع  النور  فى  الكـــون        ووحــى   الشعــــــــور   والإيمـــان
كـــم    جنــاحٍ   محطــم    يَسبـــــــق        الريـح  إذا   لاذ   بالجنـــاح   الثانـى
روعةُ   الحُب   أن   يطير   جناحـــاه        وأن   يهبطـــــــا   بكـل   مكـــــــان
يجهـلان  القيــود  -  كل  جنـــــــــاحٍ          يتناسى  الحــدود  فى  الطيــــــران
يتناسى  أن  السمــــاء   مع   الأرضِ         مع  الكــــونِ  هيكل   القضبـــــــان
...
لسـتِ   تدريـن  أن   للفــن   روحـــاً         ليس  يسمو   بها   سوى  فنـــــــــان
لسـتِ  تدريـن   أننا  حين   نهــــوى         نعبــدُ  الله  فى   دم   الشيطــــــــــان
تنزع   الروح   نحو  روح   ولكـــن         يعبـر   الحب  عالــم   الأبــــــــــدان
فتعالــى   إلىّ   جسمـــاً   لجســــــمٍ         انمـا   الجســم   آله   الروحانـــــــــى
وتعالــى   إلى  روحــاً   لـــــــروحٍ          ينسكب   نورنا  على   الأكــــــــوان

لسـت   تدرين   أننـا   يــــوم   جئنـــا          قد  لبسنا  الجسوم  والجسم  فانـــى
والحكيمُ   الحكيم   من  يُجهد   العمــــر        ويجـرى  الحيـاة   بين  الثوانـــــى
انما  الكــون   يُشبه   السجـــــــن   فى        الضيــق ،  فأين  الفضاء  للسجــان
فتعالى  إلىّ   قد  ضــاع  ما  ضـــــاع        وعاش  الهـــوى  برغم  الزمـــــان
وغدى   قد   يضيـع   ضيعة   أمســى        ويســـــوق   الغــــــرام   للنسيــــان

- ويقول لمحبوبته وزوجته ماجده، فى قصيدته التى سماها "عيد ميلاد":
ما  حياتــى   إن   أنا   ضيعتهـــــا             دون  أن  أبنــى   بنـــــاءً   للغــــــدِ
أنا   إن  عشت  وشعبى   مُرهَـــق             مُستغَــل  ثم   لم  أمـــدد   يـــــــدى
لصــراع    الظالـــم   المستعبـــــد            وصـراع  المستغــــل  المعتـــــــدى
فأنــا    لســت    بانســـــان    لـــه            عيـــد  ميـــــلاد -   أنــا  لم  أولَــــدِ
...
عيد   ميــلادى   الـذى   أذكُـــــره            يــوم  كافحــتُ  وأحببتُ  الكفــــــاح
وتمـشـَّتْ  فى   دمائــى   ثـــــورةُ             تنسِــف  الظلــم  فتـذروه  الريـــــاح
وتحسســـتُ    جراحــى    وأنــــا             فى  قيـودى -  فتحملــت الجـــــراح
...
ومضــى  عـــامٌ   وعــامٌ   و أنـــا             كُلمــا   أكبــــــرُ   أزداد    صِبــــــا
كل   يـــوم   ينقضـى   يملؤنـــــى             بشبــــــاب    يتغنــى    صاخبـــــــا
كل   يـــوم   مقبل   يحمـل   لـــى             أمـــلاً   حـــراً   حبيبــا   مرعبــــــا
...
والتقينــا   بالمصيـــــف   لحظـــةُ            وبصــدرى  ما بنيـران   المصيـــفْ
وبقلبــى   ثــــــــــورة   مكبوتــــة             كانكسار المـوج عن  صخرٍ  مُخيف
وبعينــى     يقظــــــةُ    حائـــــرةُ            وبريـق  لتـــرى  الشــــر  المُطيــف
وبعينـــــى    رغبــــة   منهومـــةُ             لتـــراك،    لتــــــراكِ،    لتـــــراكْ
وتــرى  المـوج   رذاذاً   ثائــــــراً            يتعالـى ثم  يهـــــوى  فى ارتبـــــاك
وحديـــثُ     ثائــــــر  مندفــــــــعُ           لــم  تكن  تخشــى  لظـــاه  شفتـــاك
لحظةً  مرت  وعاشت  واحتــــــوى          مِعصمــى القيــــد  وأدمــاه الحديـــد
ومضـى  عام  وعينى   تشتهـــــــى          أن  تـــراك ، والتقينــــا  من  جديـــد
فى  حديــثٍ    ثائـــرٍ   مندفـــــــــع          فى  كفــــاح  مـــاردٍ  مـــــر  عنيـــد
وكلانــــــا     قصــة    جبــــــــارة           وكلانــا  حائـــرُ  الخَطـــو  طريـــد
فصهرنــا   فى  الكفـــاح   حبنـــــــا          لهـــــب أنـــــت  -  ونيـــــران أنـــا
فتنــةُ   أنـت ،  ولــولا   ثـــــــــورةُ          جمعتنــــا  -  ماعشِقنــــا  بعضنـــــا
وكمـــانٍ      عبقـــرى     ثائـــــــــرٍ         قــــــد  حملتيــه  وغنيـــت   لنـــــــا
وبأذنــى    نَغمــــةُ    لا    تنتهـــــى         لارتطام  المـــوج  بالصخر  هنـــاك
فقتلنــــا   الرعــــب  فى    وحدتنــــا        وأقمنـــــا   فى   تحـــــدٍ    عُشنــــــا
وصحونــــا     فوجدنــــا     حولنــــا        قفصـــاً   لا تشتهيـــه   الأعيــــــــنُ
قفـــصُ    قامـــــت    عليـه     فئـــةُ        حسبــــوا   أنــا   ضعــاف   نجبــــنُ
هـذه    الجــــدران    لـــن    تخنقنــــا       فالملاييـــــن   قـــــوى   لا  تُسجـــن
الملاييــــــن     أفاقــــــت    يا لهــــم       حينمــــا   تخنــقُ   من  لا  يذعــــــنُ

- ديوان كمال عبد الحليم لا يحتوى فقط على هذه القصائد الرائعة فى الثورية والمقاومة والنضال، ولا على هذه القصائد العذبة فى الحب والغرام، إنه يحتوى على الكثير من هذه وتلك، ولكنه يحتوى أيضاً على عشرات من القصائد المختلفة فى غير ذلك من الموضوعات والأغراض، المألوفة وغير المألوفة، فإبداع كمال كان حراً طليقاً لا يقيده قيد، لا فى شكله ولا فى موضوعه.
- وآخر ما نتطرق إليه من ذلك، هو شعره الوطنى، فقد أبدع كمال الكثير من هذا الشعر، وكان شعره الوطنى حاضراً فى مختلف المناسبات الوطنية، مما أهّل هذا الشعر لأن يكون من أقوى وأجمل ما يغنى فى المناسبات الوطنية.
من ذلك أُغنيته الشهيره: دع سمائى، التى غنتها المطربة فايدة كامل (أيضاً)، عند وقوع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، والتى أصبحت على كل لسان، وكانت من أقوى أسلحة ردع هذا العدوان.
تقول كلمات هذه القصيدة:
دَع   سمائـى   ..   فسمائــى   مُحرقــه
دع    قنالــى   ..    فمياهــى   مُغرقــه
واحــذر  الأرض   فأرضى   صاعقــة

هذه   أرضى   أنــــا          وأبى    مات   هنــا
وأبى   قـــال    لنـــا          مزقـــوا    اعداءنــا
...
أنــا    شعــب    وفدائــى    وثــورة
ودم    يصنــع    للإنســان    فجــره
لن   ترانى   نازفاً   آخــر    قطــره

وستبقى  مصر  حرة ..  مصر حرة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق