بقلم: أحمد الخميسى

عبد الرحمن الخميسى

حيــاة شاعــر
بقلم: أحمد الخميسى


" عشت أدافع عن قيتارتى فلم أعزف ألحانى" هذه العبارة التى أطلقها الشاعر عبد الرحمن الخميسى ذات مرة ليصف حياته، جاءت بتصوير دقيق لحياة ذلك الشاعر الرومانسى الكبير الخصبة التى تقلب فيها بين مختلف ألوان الفن مبدعا فى الشعر والقصة والمسرح والتمثيل والصحافة والتأليف الإذاعى والإخراج السينمائى وتعريب الأوبريت بل وتأليف الموسيقى والأغانى كتابة ولحناً، ومذيعا عرف بأنه " صاحب الصوت الذهبى"، وبالرغم من كل تعدد ألوان إبداعه إلا أنه ظل شاعرا فى المقام الأول طوال حياته وخلال كل ما أبدعه.
ولد عبد الرحمن الخميسى (عبد الرحمن عبد الملك الخميسى مراد) فى 13 نوفمبر عام 1920 بمدينة بورسعيد لأم حضرية هى عائشة أبو الحسن وأب فلاح متوسط الحال من قرية منية النصر بالمنصورة. ويقول الخميسى عن نشأته: " كانت والدتى تمثل المدينة الساحلية المصقولة المضاءة بالكهرباء، وكان أبى يمثل الحقل غير المهذب حواشيه، لكنه يفوح برائحة النمو .. ولم يكن من المستطاع أن يعيش النقيضان تحت سقف واحد، فتم بينهما الانفصال، وضيعانى وأنا طفل صغير ". وعندما بلغ الخميسى السادسة اختطفه والده من بورسعيد وأرسله إلى مدرسة فى قرية الزرقا، ثم إلى مدرسة القبة الثانوية بالمنصورة لكنه لم يكمل دراسته بها. ويحكى الخميسى فى مقال كتبه لمجلة "كتب للجميع" فى أبريل 1960 أن أول نشاط فنى له وهو صبى فى نحو العاشرة كان حشد الصبية فى بيته ذات ليلة والاتجاه بهم إلى مقابر الأثرياء فى القرية لخلع أخشاب المقابر من أجل بناء مسرح للفقراء !. وكانت تلك الحادثة إشارة إلى وعى الخميسى المبكر بالفروق الاجتماعية الصارخة. وفى سن مبكرة بدأ الخميسى يكتب الشعر ويرسل قصائده من المنصورة فتنشرها كبرى المجلات الأدبية حينذاك مثل "الرسالة" للأستاذ أحمد حسن الزيات، و "الثقافة" للأستاذ أحمد أمين، ثم استقر قراره على الانتقال للقاهرة عام 1936، ولم يكن له بها سند أو قريب، وفيها أجبرته الظروف على العمل بائعا فى محل بقالة وكومسارى ومصححا فى مطبعة ومعلما فى مدرسة أهلية والنوم على أرائك الحدائق، كما جاب الريف مع فرقة " أحمد المسيرى" المسرحية الشعبية التى كان صاحبها يرتجل النصوص، وكان عند رجوع الفرقة من جولاتها يكتب الأغانى فى شارع محمد على بأسم مؤلفين آخرين نظير مبلغ زهيد. وفى فترة متأخرة دخل إلى عالم الصحافة بانضمامه إلى جريدة المصرى لسان حال الوفد قبل ثورة 1952، وأصبح الخميسى خلال سنوات معدودة "أكثر الكتاب المصريين شعبية" حينذاك كما يشير الدكتور سيد أبو النجا بعد استفتاء تم تحت إشرافه. وكان يكتب فى المصرى عموداً ثابتا بعنوان "من الأعماق". ولمع الخميسى شاعرا من شعراء الرومانسية ومدرسة أبوللو بروادها الكبار: على محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجى، وغيرهم. وفى بداية الأربعينات تأثر الخميسى تأثرا بالغا بكاتبين عملاقين: الأول شاعر الرومانسية الثورية الكبير خليل مطران، والثانى سلامة موسى الذى قاده إلى رحاب الفكر الاشتراكى. ويقول الخميسى فى مقال له بأن هناك ثلاثة وقفوا إلى جانبه: "كان أهل قريتى هم أول أولئك الثلاثة .. فقد اخذوا يستقبلون محاولاتى فى نظم الأزجال وقصائد الشعر بحب جم وسرور فائض .. وثانى الذين وقفوا إلى جانبى وشدوا أزرى هو أستاذى العظيم المرحوم خليل مطران حين جئت من الريف إلى القاهرة عام 1936 .. والثالث سلامة موسى: "أول من وجهنى إلى فهم الصلة بين الفن والعلم وأنه أن لم تكن لهما وظيفة إجتماعية فقد انعدمت فائدتهما للناس". وفى سنوات ما قبل ثورة 52 أخذت تظهر مجموعات الخميسى القصصية التى صورت طموح المجتمع المصرى وخاصة الطبقات الفقيرة إلى عالم جديد. وارتبط الخميسى فى سنوات ما قبل ثورة يوليو باليسار حركة واتجاها وفكرا بحكم تعاطفه العميق مع الطبقات الشعبية وأحلامها. وعندما قامت ثورة يوليو، أغلقت صحيفة المصرى لسان حال الوفد حينذاك، اعتقل الخميسى وظل رهن الحبس من يونية 1953 حتى منتصف ديسمبر 1956 نظرا لموقفه الداعى للتشبث بالحياة الحزبية الديمقراطية، وارتباطه بلجنة الفنانين اليسارية، وبعد الإفراج عنه التحق بجريدة "الجمهورية" لكن الحكومة قامت فيما بعد بنقله فيما يشبه العزل السياسى مع مجموعة من أبرز الكتاب إلى وزارات مختلفة وكان نصيبه منها وزارة التموين، فألف فى تلك الفترة فرقة مسرحية بأسمه كتب وأخرج أعمالها ومثل فيها وجاب بها المحافظات، كما كتب للإذاعة عدة مسلسلات لاقت نجاحا خاصا أشهرها "حسن ونعيمة" التى تحولت لفيلم واعتبرها النقاد "قصة روميو وجولييت" المصرية، ثم انتقل إلى تعريب الأوبريتات فى تجربة كانت الأولى من نوعها فى تاريخ المسرح الغنائى خاصة أوبريت "الأرملة الطروب"، وألف العديد من الأوبريتات المصرية، ثم انتقل إلى تأليف وإخراج الأفلام السينمائية. وإلى جانب ذلك كله كان الخميسى يواصل دوره الصحفى، والأدبى فى مجال القصة والشعر، ومهد الطريق لمواهب كبرى مثل يوسف إدريس، واكتشف طاقات أخرى مثل الفنانة سعاد حسنى وغيرها، وترك أثرا خاصا بدوره فى فيلم الأرض ليوسف شاهين. ومع تولى الرئيس السادات الحكم أعيد الصحفيون المعزولون إلى صحفهم وبرجوع الخميسى إلى جريدة الجمهورية كان أول ما نشره سلسلة من المقالات منع نشر ما تبقى منها، وبعدها هاجر الخميسى من مصر فى رحلة طويلة من بيروت إلى بغداد ومن بغداد إلى ليبيا ومنها إلى روما ثم باريس ثم موسكو، وعام 1981 أصدرت "محكمة القيم" التى استحدثت حينذاك فى جلسة لها بتاريخ 15 نوفمبر 1981 حكما بإسقاط الحق المدنى لعبد الرحمن الخميسى، وقضى فى موسكو ما تبقى من سنوات حياته حتى وفاته فى أبريل 1987، فنقل أبناؤه جثمانه ليدفن فى المنصورة حسب وصيته الأخيرة. وباعتراف أبناء جيله جميعا كان الخميسى شخصية جذابة وفريدة، وعلى حد قول أحمد بهجت قام الخميسى بدور فى: "تنوير الحياة الأدبية يشبه دور برتراند راسل فى المجتمع الإنجليزى"، وقال عنه يوسف إدريس إنه "أول من حطم طبقية القصة"، وأنه: "عاش قويا عملاقا مقاتلا إلى ألف عام"، وكتب أحمد بهاء الدين قائلا: "دهشت عندما قرأت فى نعيه أنه توفى عن سبعة وستين عاما فقط وكنت أظنه أكبر من ذلك لكثرة ما أنتج وكثرة ما عاش، وكثرة ما سجن، وكثرة ما سافر فى أنحاء الدنيا، وكثرة ما ترك من الأبناء والبنات فى شتى عواصم العالم". وقال عنه الشاعر والكاتب كامل الشناوى فى تقديمه لديوانه الذى يضم مجموعتيه "أشواق إنسان" و "دموع ونيران": "كلما تذكرت حياة الخميسى تذكرت كلمة الفيلسوف الألمانى نيتشه: ليكن شعارك فى الحياة أن تعيش فى قلق، وأن تقيم فوق بركان". ويرى الناقد الدكتور محمد مندور أن الخميسى شاعر وجدانى فى كل شعره، سواء كان الوجدان ذاتياً أو جماعياً أو قومياً، وأنه: "قد بلغ بشعره حدّ السحر، كلما تحدث عن ذاته وأشواق روحه وآماله وآلامه كإنسان".
وقد ترك الخميسى تراثا فى مختلف حقول الفن، وعد بذلك ظاهرة فنية وثقافية متعددة الفروع والتأثير.


أعمال الخميسى :
- فى الشعر ترك الخميسى سبعة دواوين شعرية هى: الدواوين: "أشواق انسان" - مايو 1958 القاهرة - ثم "دموع ونيران" -1962 القاهرة - ثم "ديوان الخميسى" - دار الكاتب العربى 1967- ثم "ديوان الحب"   1969القاهرة - "إنى أرفض؟" - بيروت - "تاج الملكة تيتى شيرى"  1979 بيروت - "مصر الحب والثورة" - 1980 بيروت.
وقد اعتبره الدكتور لويس عوض: "آخر الرومانسيين الكبار" وأشار إلى قصيدته "فى الليل" معتبرا أنها "من أروع ما نظم شعراء العربية". واعتبر د.محمد مندور أن الخميسى "بلغ بشعره حد السحر".
- وفى القصة توالت مجموعاته القصصية بعد أن أعاد صياغة "ألف ليلة وليلة الجديدة" على صفحات المصرى وصدرت فى جزئين، ثم ظهرت مجموعته الأولى "من الأعماق" ثم "صيحات الشعب" فى نوفمبر 1952، ثم "قمصان الدم" مارس 1953، و "لن نموت" مايو 1953 ثم، "رياح النيران" مكتبة المعارف بيروت أبريل 1954، و "ألف ليلة الجديدة" و "دماء لا تجف" فى نوفمبر 1956، "البهلوان المدهش" أكتوبر 1961 (الكتاب الذهبى روز اليوسف)، وأخيرا "أمنية وقصص أخرى" (الكتاب الماسى) عام 1962 وكانت تلك آخر مجموعة قصصية له، فلم يعد إلى فن القصة. وله أيضا قصة طويلة لم تطبع نشرت فى المصرى أواخر الأربعينات تحت عنوان "الساق اليمنى".
ويكتب الدكتور سيد حامد النساج فى كتابه "اتجاهات القصة المصرية القصيرة" أن القصة القصيرة الواقعية توارت طوال الثلاثينات وأوائل الأربعينات، وحل محلها اتجاه رومانسى سيطر على وجدان كتابها ومنهم محمود كامل وإبراهيم ناجى ويوسف جوهر وصلاح ذهنى ويوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وغيرهم .. أما كاتب القصة الذى يعتبر مثالا للرومانسية الثورية التى لم تحل دونه ودون نقد الأوضاع الطبقية والوقوف مع المظلومين ضد الظالمين .. فإنه عبد الرحمن الخميسى فى قصصه القصيرة التى كتبها منذ أواخر الأربعينات حتى الستينات، مما جعل رومانسيته تحمل هذا الطابع الثورى الإيجابى متأثرة بحركة المجتمع. وقد أكد الدكتور على الراعى نفس المعنى. وفى نفس المضمار أشار يوسف إدريس إلى أن الخميسى "حطم طبقية القصة القصيرة".
- فى المسرح شكل الخميسى فرقة مسرحية بأسمه فى 21 مارس 1958 وقدمت عرضها الأول على مسرح 26 يوليو الصيفى بثلاث مسرحيات قصيرة من تأليف الخميسى وإخراجه وتمثيله وهى "الحبة قبة"، و "القسط الأخير" و "حياة وحياة". ثم قدمت فرقته مسرحية "عقدة نفسية" المترجمة عن الرواية الفرنسية "عقدة فيلمون" لمؤلفها جان برنار لوك واقتبسها للمسرح الانجليزى جون كلمنتس وسماها "الزواج السعيد" ثم مصرها أحمد حلمى لفرقة الخميسى. وكانت عزبة بنايوتى تأليف محمود السعدنى ثالث عروض الفرقة، وفيها قام الخميسى بدور كشف عن طاقاته كممثل بارع. وقدمت الفرقة بعد ذلك عملها الرابع والأخير وهو "نجفة بولاق" تأليف عبد الرحمن شوقى فى مارس 1961، وجابت الفرقة محافظات القاهرة، ثم توقفت بسبب الظروف المالية.
- فى مجال الأوبريت اتجه الخميسى إلى تعريب الأوبريتات وكتابتها، فقدم "الأرملة الطروب" عام 1961، التى وضع موسيقاها الموسيقار المجرى فرانز ليهار عام 1905 وعرضت فى نفس العام فى فيينا، وهى من تأليف "فيكتور ليون" و "ليوشتين". وتمكن الخميسى مع الالتزام بالترجمة الشعرية الدقيقة للنص الأصلى من اختيار وضبط الكلمات العربية شعرا على مقياس الوحدات الموسيقية والألحان الأصلية التى وضعها فرانز ليهار. وقدم الخميسى تجربة ثانية مماثلة من تعريبه أيضا هى أوبريت "حياة فنان" تأليف الموسيقار الانجليزى ايفون نوفيللو، وكان اسمها الأصلى "السنوات المرحة" وتم عرضها بدار الأوبرا فى مطلع شهر ديسمبر عام 1970، وكلفت وزارة الثقافة المخرج النمساوى تونى نيسنر الذى أخرج من قبل "الأرملة الطروب" بإخراجها. وقدم الخميسى للمسرح الغنائى مسرحية من تأليفه هى أوبريت مهر العروسة عن تأميم قناة السويس ونشر الفصل الأول منها فى الجمهورية فى 27 مايو 1961، وعرضت فى 2 أبريل عام 1964، وفى 29 يوليه 1963 وقع الخميسى عقدا مع المؤسسة العامة للمسرح والموسيقى قدم بموجبه أوبريت جديدة من تأليفه هى الزفة لكنها لم تعرض. وخاض غمار كتابة أوبريت جديدة هى "عيد الحبايب"، وصرح للصحف حينذاك بقوله "نريد أن نحدث ثورة فى المسرح الغنائى مبنية على أسس فنية وتحمل فى نفس الوقت أيديولوجية متقدمة". كما خطط لكتابة أوبريت مشترك مع الشاعر التركى العالمى ناظم حكمت عن تاريخ كفاح الشعب المصرى وذلك عندما التقى الفنانان فى مؤتمر لكتاب آسيا وأفريقيا فى القاهرة فى فبراير 1962، لكن الظروف الشخصية للشاعرين حالت دون تحقيق ذلك الحلم.
وكتب محمود السعدنى فى يناير 1964 بصباح الخير أن "مهر العروسة ستظل المفتاح السحرى الذى فتح أبواب المسرح الغنائى المصرى".
- فى السينما قدم الخميسى أربعة أفلام شارك فى وضع قصصها وسيناريوهاتها وألف الموسيقى التصويرية لبعضها ومثل فى بعضها الآخر وهى: "الجزاء" 1965 بطولة شمس البارودى وحسين الشربينى - "عائلات محترمة" عام 1968 حسن يوسف وناهد شريف - "الحب والثمن" أكتوبر 1970 أحمد مظهر زيزى البدرواى - "زهرة البنفسج" 1972 زبيدة ثروت وعادل إمام - كما قدم للسينما اكتشافه الرائع "سعاد حسنى" فى فيلم حسن ونعيمة الذى كتب له السيناريو، كما قام بأداء دور الشيخ يوسف فى فيلم "الأرض" ليوسف شاهين.
- فى النقد قدم كتاب "الفن الذى نريده" - الدار المصرية عام 1966، وكتاب "مناخوليا - محاورات ونظرات فى الفن" - وكتاب "المكافحون" وهو سير حياة لعظام مثل عبد الله النديم وغيره صدر عن مطبوعات المصرى فى سبتمبر 1951.
- فى الترجمة ترجم مختارات من أشعار ووردزورث، وكيتس، ثم مختارات من القصص العالمية تحت عنوان "يوميات مجنون" صدرت فى كتب للجميع ما بين 1951 - 1952، ثم مختارات من الشعر السوفييتى عام 1985 صدرت عن دار رادوجا الروسية، ثم الصهيونية غزو بلا سلاح للكاتب فلاديمير بيجون - بيروت عام 1985.

وفى النهاية فقد ترجمت أعمال الخميسى إلى لغات عديدة منها الإنجليزية والروسية والفرنسية وغيرها وكانت موضوعا لرسائل الدكتوراه فى جامعات أوربية عدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق