فى ذكرى عبد الرحمن الشرقاوى

بقلم: محمود توفيق

بعد أيام معدودة من صدور هذا العدد، تمر بنا الذكرى الثالثة لوفاة عبد الرحمن الشرقاوي، ولسنا هنا بصدد رثاء الشرقاوى أو البكاء عليه، فقد بكاه أحبابه حين غادرهم إلى جوار ربه فأطالوا البكاء، وحتى غاض الدمع وجفت المآفى، بل إن الكثيرين ممن خالفوه فى حياته أو حتى ممن جحدوا فضله قد نعوه حين وفاته بكلمات حارة لاشك عندى فى أنها نبعت من أعماق قلوبهم وضمائرهم، ومهما يكن من الأمر فإن أمد الأحزان من الرجل العظيم فهو عمله، وما يتركه هذا العمل من أثر، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وبهذا المقياس ينظر الناس جميعاً إلى الشرقاوى بعد مرور هذه الأعوام الثلاثة على فقده، فلست أظن أن هناك الآن من يمارى فى مدى عظمة الشرقاوى، عظمته شاعراً وكاتباً ومفكراً، أو عظمته مناضلاً من أجل الحق والحرية والعدالة أو عظمته كإنسان وصاحب قلب كبير عامر بالخير والحب والفضائل، ولست أظن أن هناك من لا يستشعر الخسارة الفادحة بفقده، خسارة كل عربى، وكل مسلم، وكل نصير للحرية والعدالة والسلام فى هذا العالم، فقد كان عبد الرحمن الشرقاوى ذخراً ونصيراً لكل هؤلاء، ولست أظن أن هناك من يجادل فى أن دنيانا الحالية، بعد رحيله لم تعد هى نفس دنيانا فى حياته، فقد خلت هذه الدنيا من الكثير والكثير من بهجتها وعبيرها وصفائها.
وسوف يجد القارئ، فى الصفحات التالية، مقالاً ضافياً للكاتب الكبير فاروق خورشيد، يلقى فيه الضؤ الباهر والصادق على معالم أدب عبد الرحمن الشرقاوى، وعلى معالم شخصيته كإنسان.
كما سوف يجد القارئ ثلاثة نماذج من شعر عبد الرحمن الشرقاوى، اخترناها -  بمعونة نجله الشاعر - من روائع شعره المسرحى.
 وعزاؤنا فى عبد الرحمن الشرقاوي هو ما أضافه إلى الأدب العربى، والعالمى من إنتاج جميل، وما تركه فى عقول ونفوس جيلنا، والأجيال القادمة، من خلال عمله وحياته، من أثر رائع لا يمحى.
محمود توفيق



________________

عبد الرحمن الشرقاوى الانسان
الصديق ... الراحل
بقلم: فــاروق خورشيـــــد

" ستحيا ابنتى فى ظلال السلام .. وتنعم باللعب الوافرة تمارس كل حقوق الحياة طفولتها الزاهرة ستحيا انطلاقاتها كلها وأحلامها الحلوة الشاعرة وأقسم أن لن تصير ابنتى غدا طفلة لشهيد قضى أتسمعنى أيها الهمجى .. ستحيا ابنتى فى ظلالى أنا كأسعد ما تتعاطى الحياة
أتسمعنى أيهذا الاله
ستحيا ابنتى فى ظلال السلام
وتصبح أنت مع التابعين هواجس من ذكريات الظلام فإن تملكوا الذرة المفنية
فإنا لنمتلك التضحية
ونمتلك الذرة البائية
ونملك طاقتنا كلها ونملك أيامنا الباقية
وتاريخ أجيالنا الآتية .. "
بهذه الأبيات المليئة بالصدق والمرارة، وبالإصرار والإحساس بالطحن، بالثورة والأمل، ينهى عبد الرحمن الشرقاوى قصيدتة الرائعة " رسالة من أب مصرى إلى الرئيس ترومان " التى نشرها عام 1951 فكانت أحسن استهلال لحياة رائعة فى دنيا الكلمة والفكر، وكانت تلخيصا موجزا للرؤية والفكر التى سيظل يدور فى فلكها حتى النهاية عام 1987، تلك الحياة التى بدأت عام 1920 فى قرية الدلاتون بالمنوفية والتى دارت أساسا حول حب الأسرة، وحب الوطن، وحب القومية، ثم حب السلام للإنسان، والعدالة للإنسان، والجدية للإنسان، فى كل مكان وفى كل مكان وفى كل زمان .. ذلك الحب الذى يدفع القوة بالتضحية بالذات، ويدفع العسف بالعدل بالإصرار، ويدفع الطغيان بالطاقات كلها، طاقة ( أيامنا الباقية وتاريخ أجيالنا الآتية ) .. ويكشف لنا الكاتب إبراهيم عبد الحليم فى مقدمة طبعة هذه القصيدة، العوامل الأولى التى كانت تمور بصدر الشرقاوى فى مستهل الفتوة فيقول عنها: ( فى ذلك الوقت - عام 1951 - كان الشاعر عبد الرحمن الشرقاوى فى باريس، وكتب قصيدته هناك وهو يعبر البحر الواسع بإحساسه ومشاعره ويتطلع وقلبه يهتز بالحب والأمل والثقة إلى وطنه وزوجته وابنته الصغيرة عزة .. وكان شاعرنا المصرى يلتهم فى باريس تراث فرنسا الأدبى والثورى .. كان من هناك يسجل أحاسيس جديدة لم يأبه بها ولم يرها أدباؤنا الذين تحصصوا فى وصف المواخير والغانيات .. وكتب شاعرنا عن مارتان وريمون ريان فى 14 يوليو، وكانت رسائله للكاتب تهز آلاف الأباء والأمهات فى مصر وتربطهم بمعركة السلام .. ومن خلال هذه الرسائل أحست مصر، وأحس الأحرار فى مصر .. بميلاد فنان جديد .. فنان لا يتخذ الأدب حرفة للكسب، بل يعتبره رسالة، ويشهر قلمه كسلاح من أجل وطنه ومعركة الإنسانية، من أجل الحياة والثقافة والحرية، وكرامة الإنسان " .. ومن كلمات إبراهيم عبد الحليم نحس هذا الجوهر الذى يستشرف الثقافة فى باريس، وحركة الإنسان الحر فى كل مكان من أجل زوجته وأبنته ومصره وقومه ومن أجل الإنسان، ومن أجل رفقة الطريق الأصدقاء يعمل الشرقاوى لبناء ثقافة جديدة فى مواجهة الطغيان والطوفان: يقول مخاطبا مفجر أول قنبلة مبيدة فى التاريخ - ترومان - قائلاً:
" ولكن أنا
أنا وأبنتى
وفتاتى التى أجن بشوقى إليها هنا " أى زوجتى "
وهذا الصديق، وذاك الرفيق، وكل الرفاق بناة الغد
أنملك نحن سوى التضحية ؟
ألا ننحنى لك يا سيدى،
وأنت إله الزمان الجديد ؟
وكالله أنت إله وحيد ..
معاذك .. بل أنت فوق الشبيه،
وليس كمثلك شئ يكون
وفى الأشهر القلة الماضيات أبدت كما لم يبد فى سنين ؟"
الزوجة والأبنة والرفاق والأصدقاء هم الدرع، وهم أيضاً الهم الدائم لأنهم الوطن، ولأنهم بناة الغد وأمله، ومن الأعماق يأتى حبه لجذوره وتراثه ووطنه ودينه. ويكشف الشرقاوى عن هذه الارتباطات الريفية الأصيلة فى عمق تكوينه فى إهدائه لكتابه الرائع ( محمد رسول الحرية ) فيقول :
" إلى أبى .. الذى غرس فى قلبى - منذ الطفولة - حب محمد "..
فالأب هنا رمز الحنان والحب حقا، ولكنه أيضاً رمز التربية والأصالة، فليس الأب مجرد والد، وإنما هو الذى غرس فى القلب حب محمد، وما حب محمد ؟ حب محمد هو عمق الإيمان بالإسلام ورسالته، رسالة النور والسلام .. حب محمد هو صادق الالتفاف إلى معنى النبوة فيه، وإلى معنى الإنسان البطل الذى يقود أمته من الظلام إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الذله والعمالة إلى الكرامة والاستقلال .. إن كتاب محمد رسول الحرية، أو قصة محمد رسول الحرية، كما أحب أن يسميه إذ فضل المنهج الروائي فى كتابته، يقدم نفسه إلى القراء  ( .. عسى أن يجدوا فيه قصة إنسان رائع البطولة، ناضل .. على الرغم من كل الظروف ضد القوى الغاشمة المفترسة، من أجل الإخاء البشرى، ومن أجل العدالة والحرية وكبرياء القلب المعذب، ومن أجل الحب والرحمة، ومستقبل أفضل للناس جميعاً بلا استثناء: الذين يؤمنون بنبوته والذين لا يؤمنون بها على السواء .. إنه ميراثهم جميعاً لا ميراث الذين يؤمنون به فحسب .. ) .. لقد امتزج عند عبد الرحمن الشرقاوى معنى الدين بمعنى الإنسان. فالدين يعيش فى قلب الإنسان، والدين يريد للإنسان الحياة الأفضل، الحياة الأكرم، الحياة الأعدل .. ومن أجل أن يصلح الإنسان لمواجهة رسالته على الأرض، كان لابد أن يهتدى إلى حقيقة علاقته مع السماء، كان لابد لمعنى السلام أن يبدأ بين الإنسان وربه، قبل أن يجاهد لتحقيق السلام بينه وبين البشر كافة، وفى البشر كافة .. ثم ما كان يستطيع أن يحقق هذا السلام الخلاق المبدع فى اكتشاف عظمة الله فى كونه، وتسخير كل الطاقات التى أعدها الله لخلقه إلا بمجموعة من المثل والمبادئ تقيم له الخطو، وتيسر الطريق، وتهديه إلى السواء .. فيكون إنسانا عابدا مؤمنا، ثم يكون إنسانا مناضلا ضد كل ما هو عدو للإنسان والعدل والحرية والإخاء .. فإنسان القلب المظلم لا يقيم مشعل نور، إنسان القدرة الظالمة لا يحقق عالم حب وسلام .. وفهم عبد الرحمن الشرقاوى هذا للدين كان منهجه فى كل ما كتب عنه فى كتابه ( قراءات فى الفكر الإسلامى ) الذى نشره عام 1972. وفى محاولاته لرسم شخصيات أبطال النور والإخاء والعدل والبسالة فى حياة الإسلام، فى ( على إمام المتقين ) و ( عمر بن عبد العزيز ) و ( الفاروق عمر بن الخطاب ) و ( الصديق أبو بكر) و ( ابن تيمية الفقيه المعذب ) و ( أئمة الفقه التسعة ).
وإذا كان الأب يمثل فى حياة إنساننا الإيمان القوى، الإنسان الشادى إلى المعرفة والعدل، إنسان المعركة الدائمة يقهر الكفر والظلم والاستبداد، فإن الأم تمثل نوعاً آخر من الإيمان، إنه إيمان الحب، وإيمان التضحية، وإيمان الحزن الشجى والأمل الهادئ. ومن هنا قدم عبد الرحمن الشرقاوى مسرحيته ( ثأر الله ) : ( الحسين ثائراً ) و ( الحسين شهيداً ) إلى أمه، التى يجتمع فيها معنى التضحية مع معنى الوفاء والذكرى أبدا، ويقول الشرقاوى فى مقدمة هذه المسرحية " إلى ذكرى أمى أهدى مسرحيتى ( الحسين ثائراً ) و ( الحسين شهيداً) ويبرر هذا الإهداء بقوله: ( إلى ذكرى أمى التى علمتنى منذ الطفولة حب الحسين، ذلك الحب الحزين الذى يخالطه الإعجاب والإكبار والشجن، ويثير فى النفس آسى غامضاً، وحنينا خارقا إلى العدل والحرية والإخاء، وأحلام الخلاص) .. واختيار على والحسين لم يأت عفوا، فالأب هو رمز النبالة رمز الفروسية والشهامة والخلق الذى هو خلاصة الفتوة العربية كلها، ثم هو صاحب المبدأ الذى يدافع عنه بسلاحه هو الشريف الكريم، لا بسلاح الآخرين المحتال المخادع، حتى لو كان فى الأمر هزيمة، لأن الهزيمة مع الشرف بقاء، ولأن الانتصار مع الخسة عار لا يمحوه زهو الانتصار .. فإن الحسين يمثل الشهادة الكريمة والفداء لأمته ولمبادئه وللمعنى الإنساني الكريم فى أن يظل الإنسان إنسانا لا يتراجع عن معنى، ولا يذل أمام إغراء أو سلام شخصى، كما يظل يمثل الثأر الدائم للايمان من الفسق، وللكرامة من الاتضاع والوصولية والنفعية المجردة، وللإنسان من معانى دماره وضياعه، واختفاء قيمه النبيلة من حياته.
جولاته وصولاته، وكثرت جراحاته، وأثخنت فيه الأحقاد أن يتراجع وإذا كان عبد الرحمن الشرقاوى قد أهدى مسرحيتيه عن الحسين لأمه فقد أهدى كتابه (على إمام المتقين) إلى أخيه، وقد بلغ الفارس أشده، وكثرت ويترك السلاح، ولكنه لا يحيد حتى الموت، ولكنه أيضا يحتاج إلى من يفهم معنى معاناته، ومعنى ما يلقى فى سبيل ما ارتضاه لنفسه من تعب وهموم .. ومن غير الأخ الناضج يفهم، ويرقأ الدموع التى لا تسيل، ويقطب الجراح حتى تندمل .. يقول عبد الرحمن الشرقاوى فى إهدائه لكتابه ( على إمام المتقين ) : ( إلى أخى الدكتور عبد الغفار .. كنت تشفق على ونحن صغار من أن يصرفنى الأدب عن طلب العلم، فلما أنهيت دراستى بكلية الحقوق، خفت أن يصرفنى الأدب عن الاشتغال بالقانون، كما كان يريد أبونا رحمه الله .. فلما أدركتنى حرفة الأدب، عانيت أنت ما جرته على الحرفة من سخط وكيد .. ثم تعودت أن تلومنى لأنى رفضت كثيراً من المناصب الكبرى والرياسية لكى أتفرغ للأدب وحده، بما يتطلبه من انشغال البال بالقراءة والتفكير والتأمل وهموم التعبير .. ولكم شق عليك هذا .. ) .. ليس الأخ أيضاً مجرد الشقيق فى الدم والرحم، وإنما هو الأخ الذى يشارك فى تحمل العبء، ويتحمل عن أخيه ومعه ما يلقى من هموم، فالعلاقات ليست وحدها علاقات الصدفة بالميلاد، وإنما هى علاقات ينميها التعاطف والفهم، وتغلغل معانى النبل فيها، وكذلك الدين ليس هو الإيمان العفوى الذى يأتى بالتوارث الاسرى، وإنما هو الإيمان الممزوج بالعمل الفاهم، والإدراك السليم لمعنى الدين كسياج يصون من الزلل، وكدافع إلى التحلى بمعنى الجليل من الخلق، وكأمر الهى بأن يلعب الإنسان دوره فى تثبيت الشرف والكرامة والصدق والسلام، وكذا معنى البطولة فى أبطال الإسلام هؤلاء الذين اختار أن يكتب عنهم عنده فهو يقول عن كتابه عن على .. ( .. وبعد، فأرجو أن أكون قد وفقت فى رسم صورة مضيئة للإسلام، ولقدرته على مواجهة مشكلات العصر، من خلال تصويرى للإمام على بطلا خارقا، ومفكرا، وحكيما، وعالما، وزاهدا، وإنسانا عظيما .. ويالهذا البطل المثالى الذى كان يواجه بنباله الفروسية، وبعظمة الزهد، وبسمو الفكر، كل ما طالعته به الحياة الجديدة من أطماع، وجحود ودسائس، وحيل، وأباطيل .. ) .. وهو يقول على ألسنة أبطال الحسين حين قرر الخروج لمواجهة الفتنة وعهد يزيد فى آخر المشهد السابع من ( الحسين ثائرا ) ..
" زينب: آه لو تدفع عنه الكيد آلاف القلوب الضارعة
سعيد: إنما تدفع عنه الغدر آلاف السيوف القاطعة
ابن جعفر: (مختنقا ) يا إلهى إنهم لن يتركوه
لن يكفوا عنه حتى يقتلوه
الحسين: ( جليلا ) ليست العبرة فى قتل الحسين
إنما العبرة فيمن قتلوه .. ولماذا قتلوه ؟
ابن جعفر: ( فى يأس هائل ) سيظلون ملوكا
يتوالون على عرش مكين مطمئن.
الحسين: ( مستمرا فى جلاله ) إنما العبرة فى ثأر الحسين
أنا ثأر الله إن مت شهيدا فاطلبو، فأطلبو الثأر من السفاح أيا ما يكن "
أنت ترى أن المسألة ليست ترديدا لكلام الأسى للبركة، وحسن التأسى ربما .. ولكن المسألة استولاد المعنى الجديد، وإدخال درس الماضى فى هموم الحاضر، وإسقاط تلوث الحاضر على استدعاءات التراث الإسلامى المجيد، فالهدف هو أن ( يكون الإسلام مدلا بقدرته على مواجهة مشكلات العصر ) .. وفى عصرنا استشهد الحق على أيدى الباطل، وهزمت النبالة أمام السفالة، وضاع الحق وسط انكسار أصحابه وتغافلهم وقعودهم .. وفى عصرنا ضاع الحق فينا فضاع حقنا، ومن أروع صور هذا الإسقاط الفنى الماهر قوله فى نشيد الحسين الأخير، نشيد الشهادة فى ( الحسين شهيدا ) والمشهد يدور فى صحراء محرقة هى صورة للصحراء التى استشهد فيها الحسين بكربلاء، وهو من المشاهد المسرحية الرامزة، والتى ترفع العمل كله إلى مرحلة الملحمة .. يقول الحسين:
" الحسين: فلتذكرونى عندما تغدو الحقيقة وحدها حيرى حزينة
فإذا بأسوار المدينة لا تصون حمى المدينة
لكنها تحمى الأمير وأهله والتابعينة فلتذكرونى عندما تجد الفضائل نفسها أضحت غريبة
وإذا الرذائل أصبحت هى وحدها الفضلى الحبيبة "
فالمدينة بلا أسوار، والفضائل بلا انتماء، والرذائل القانون والقاعدة والمقياس ..
" الحسين: فلتذكرونى حين تختلط الشجاعة بالحماقة
وإذا المنافع والمكاسب صرن ميزان الصداقة
وإذا غدا النبل الأبى هو البلاهة وبلاغة الفصحاء تقهرها الفهاهة والحق فى الاسمال مشلول الخطى حذر السيوف ".
وما الشجاعة، وما النبل، وما الفصاحة ما الحق .. الكل أسرى اختلاط القيم، وتردى العصر " والكل يسأل فى حيرة أين مكانه فى القلوب وفى الأفهام وفى الضمائر، والكل يعرف أنه ينزوى حذر السيوف، وحذر الفهاهة والبلاهة .. ونحن نذكر الحسين مع هذا الكلمات :
" الحسين: فلتذكرونى حين يختلط المزيف بالشريف
فلتذكرونى حين تشتبه الحقيقة بالخيال وإذا غدا جبن الخنوع علامة الرجل الحصيف
وإذا غدا البهتان والتزييف والكذب المجلجل هن آيات النجاح
فلتذكرونى حين يستقوى الوضيع
فلتذكرونى حين تغشى الدين صيحات البطون
وإذا تحكم فاسقوكم فى مصير المؤمنين ".
بهذه الصيحات فى الحسين تحولت المسرحية إلى وثيقة احتجاج أدبية على عصر شاهده يعرفه ويتمزق بأوضاعه المقلوبة، وقيمة الجائزة .. ويتحول التاريخ إلى واقع، ويتحول الاستلهام إلى إسقاط، ويتحول الأديب إلى داعية ثورة ويقظة وتمرد. وقد كانت- وستظل - هذه هى رسالة الأدب فى كل زمان وجد فيه الظلم وضاع فيه الحق - عبد الرحمن الشرقاوى بهذا يرفع عن جيله تهمة الصمت والمداراة، هو قال بوضوح، وقال فى العلن. ولكنه قال كأديب فنان، قال من خلال الشخوص والرموز المستوحاه من ماض عرف مثل ما عرفنا ولكنه تمرد على ما صمتنا نحن عنه. ويقول:
 " الحسين: وإذا غزيتم فى بلادكم وأنتم تنظرون
وإذا اطمأن الغاصبون بأرضكم وشبابكم يتماجنون
فلتذكرونى ..
إن الصيحة هنا هى صيحة الكرامة للإنسان فى وطنه حين لا يصح سوى الصحيح، والسلام له فوق أرضه حين لا يرضى الضيم، وحين يتصدى لكل عدوان على أرضه وأهله.
وتكتمل الدائرة حين نلاحظ أن أول كتاب له وهو ( رسالة من أب مصرى إلى الرئيس ترومان ) إهداء إلى ابنته الطفلة أيامها ( عزة ) - ثم يأتى كتاب صدره بإهداء وهو ( خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز ) فيهديه إلى جميع أبنائه وقد اكتمل شملهم ( عزة وأحمد وشريف وأيمن ) فما نعرف أنه صدر بلا إهداء، والصديق أبو بكر لم يصدر فى حياته ككتاب. ويقول فى هذا الإهداء الذى وجهه لأبنائه اسما اسما: ( أهدى هذا الكتاب الذى حاولت أن أرسم فيه صورة قيمة لإمام عادل، ضحى بثروته، وعافيته، وبكل شئ حتى حياته لينشر قيم الإسلام الفاضلة، وليدافع عن الحقيقة والعدل والإخاء وحقوق الإنسان، متحديا الخطر والمؤامرة، والسم والخنجر ) .. إنه يقدم هنا نموذجا لشهيد آخر خرج من نفس العبادة، وعاش لنفس المبادئ، الحسين حمل السيف واستشهد، أما عمر بن عبد العزيز فقد حمل المسئولية وحمل العدل وحارب بهما الظلم والفسق واستشهد، ومات مسموما على فراشه، فمنذ بدأ وهو يتآسى بعلى بن أبى طالب وعمر بن الخطاب، نموذجين إسلاميين مشرفيين، أحدهما حاد فى مبادئه، والآخر حاد فى عدله، فتعلم من الأول الاستشهاد من أى ثوب الزهاد فعرف حقيقة عصره، وعاد رجال المسلمين إلى العمل الصالح البناء فى ثقة بالسلطة وفى أمن منها ومن غدر أصحاب النفوذ من رجالها، وعاد مال المسلمين إلى أصحابه، يقول الشرقاوى : ( وأعاد عمر توزيع المال على أساس من العدل والاحسان فأثرى الناس، قال أحد عماله: " بعثنى عمر بن عبد العزيز على صدقات أفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيرا، ولم نجد من يأخذها منى، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم، وولاؤهم للمسلمين " وهكذا اغتنى الناس فى مصر والشام والعراق واليمن وخراسان وبلاد ما وراء النهر، وسائر أمصار الدولة من بحر الظلمات فى أقصى المغرب إلى الصين فى أقصى الشرق .. ما عالج ما ورثه من خراب إلا بالعدل والإحسان .. ) .. إن النموذج هنا ليس لصاحب مبدأ ينادى به، فإن فاز بالحكم لا يعرف كيف يتصرف ولا أين ستذهب مبادئه النموذج هنا لواحد دخل حيز التنفيذ الحقيقى لمبادئه، وعرف كيف يبعد الذئاب عن القطيع، وكيف يحمى القطيع هجمات الذئاب ووحشيتها، ليرفع مشعل النور بيد ثابتة، ويؤكد وجود العدل وإمكان تحقيقه، حتى لفترة من الزمن.
ولكن الذئاب تتربص دائما، وتدس المال فى يد العبد، ويدس العبد السم فى طعام سيده، ويستشهد عمر بن عبد العزيز ويقول الشرقاوى معلنا أن سقوط العلم من يد لا يعنى إلا أن يدا أخرى ستلتقطه بالحتم وترفعه من جديد، أو تكافح النفوس الحرة والضمائر الأبية من أجل هذا: ( وذات صباح، عادت الذئاب تشرع الأنياب، وتشهر الأظفار، وشكا الرعاة فى أعلى رؤوس الجبال البعيدة، وفى الوديان الفسيحة سطوة الذئاب، فقد انقضت على الشياه تفترسها بلا رحمة، بعد أن ظلت نحو عامين ونصف وما من ذئب يفتك بشاة .. فعلموا أن العبد الصالح الإمام العادل فارق دنياهم .. واستنفر الرعاة بعضهم بعضا فى أقطار الأرض، وأعدوا ما استطاعوا من قوة، ليخوضوا معركة المصير ضد الذئاب .. كل الذئاب ).
عبد الرحمن الشرقاوى كتب للغد ولأبناء الغد أبنائه الآخرين، ويقول لهم جميعا فى إهدائه لكتابه عمر بن عبد العزيز إليهم ( .. عسى أن تجدوا يا أبنائى أنتم وجيلكم فى هذا الكتاب ما يحبب إليكم تراثكم العظيم، فتجدوا فيه الأسوة، والعبرة وما يعينكم على حل مشاكل عصركم .. ) .. كما أنه يوجه الحديث باستمرار إلى الإنسان ... الإنسان بعامة، والإنسان المسلم بخاصة، والإنسان العربى بصفة أخص، والإنسان المصرى فى أخص الخصوص، يعرف واجبه تجاههم فيتبنى آلامهم، وينشر أمامهم صور القوة فى السلوك والكفاح والشهادة.
ولعله أيضا كان يوجه كلامه إلى الحكام فى عصره وفى كل عصر حين يرسم لهم طريق الخلود فى تاريخ أمتهم، فهو يوجههم وينقد واقعهم من خلال السطور وما بين السطور، يقول فى ( عمر بن عبد العزيز ) و (.. ومهما يكن الأمر فقد عالج عمر بن عبد العزيز ما اقترفه العمال الظلمة من تخريب ما هو عامر فى الناس والأرض والأشياء، فازدهرت الأمصار، وأثرت برجالها وثرواتها وعمارتها .. وشاعت التقوى .. والناس على دين ملوكهم، ولقد كان الوليد صاحب بناء فأهتم الناس بالمبانى، وكان سليمان صاحب طعام وزواج فاهتم الناس بالطعام والنساء، وجاءهم عمر صاحب فقه وتقوى فأهتموا بالدين ..) .. وهذا الانتباه والتوجيه واضح الدلالة إن وجد أذنا تصغى، وما على الكاتب إلا أن يؤدى الأمانة، ويكشف فى مرآته للناس عن وجودهم التى تغطيها أصباغ الملق، وكلمات الزيف، وأناشيد المفسدين، وطبول الرجال الجوف..
وانتماء الشرقاوى الواضح لأسرته الصغيرة وأسرته الكبيرة على السواء، لم يخفت أبدا من جانب انتمائه إلى الأصدقاء والرفاق، فما عرفنا واحدا كالشرقاوى يجمع فى صداقاته بين كل المتناقضات: يصادق أهل اليمين، كما يصادق أهل اليسار، ويصادق أهل النفوذ والسلطة، كما يصادق من هم بلا نفوذ أو سلطة -  ويصادق من يبدون له الصدود والعدواة، كما يصادق من يمدون له حبال الود والمحبة.. هذا القلب الكبير كنت تعرف معناه فى مشهد جنازته المهيب، وفى سرادق العزاء الرحب، الذى أتسع لممثلى السلطة وممثلى المعارضة، وللشباب والشيوخ، ولرجال الدين ولرجال الماركسية، وللمسلمين وغير المسلمين، ولرجال الاقتصاد والفكر والإبداع والإعلام والفن والطب والعلوم.. هذا الحشد هو عقد منظوم استكن فى قلب الشرقاوى، فلما سكن نبضه انفرط العقد وباح بمسرحياته التى لا يحصيها عدد، والتى لا يجمعها إلا قلب إنسان يحب، ويعرف الحب، ويدعو إلى الحب، ويعيش الحب نفسه.
وكما ترك لصديقه إبراهيم عبد الحليم أن يقدم ( خطابا مفتوحا من أب مصرى إلى الرئيس ترومان ) إظهارا لإعزازه له ولمكانته من نفسه، ترك لصديقه الإذاعى الكبير سعد لبيب أن يقدم كتاب ( أرض المعركة ) ويقول سعد لبيب فى نهاية المقدمة: ( لقد جرت العادة أن يقدم أمثال هذا الكتاب واحد من كبار الكتاب، فيصطنع كثيرا جدا من الحلم والتواضع، ويربت على كتف صاحب الكتاب فى حركات مسرحية مكشوفة ثم يقدمه إلى الجمهور..
أما هنا، فواضح جدا أن الذى يقدم الكتاب ومؤلفه ليس أحدا من كبار الكتاب .. بل ولا حتى من صغارهم .. إننى قارئ يا سيدى .. مثلك تماما .. كل الذى امتزت به أن مؤلف هذا الكتاب وهو صديق قديم .. أطلعنى عليه قبل نشره وطبعه .. فأحببت أن أعلق عليه بكلمة .. فكانت هذه المقدمة ..) هو الحب والصداقة إذن، وهو الوفاء مهما كان الوفاء أيضا، وقد اشتهرت صداقة عبد الرحمن الشرقاوى ويوسف السباعى وأحمد حمروش وإحسان عبد القدوس وكامل الشناوى وصلاح حافظ كما اشتهرت صداقته، وحسن فؤاد وزهدى وطوغان وجمال كامل وأحمد كامل مرسى وأنور المشرى وكامل التلمسانى وسعد لبيب وعباس أحمد.. واشتهرت أيضا صداقته وعبد العزيز عبدالله وصلاح الدين حافظ والدكتور النجار والدكتور النمر وفتحى عبد الفتاح ومحمد الرميحى ويوسف العانى وسليمان مظهر وميخائيل رومان وبدر الديب وصلاح عبد الصبور وعبد القادر القط وثروت أباظة وعبد الرحمن فهمى.
إن ضايقه أحدهم ابتسم لأنه صديق، وإن وشى إنسان بأحدهم عنده، ضحك وقال صديق، وإن غاب أحدهم سأل عنه فهو الصديق.
فى الستينات كنا نلتقى مع عبد الرحمن الشرقاوى كل أسبوع أما فى الكارلتون أو فى الصالة الخلفية من بور فؤاد وتدور أحاديثنا ومناقشاتنا الهادئة حينا، العصبية حينا، ولكن صوت الشرقاوى الهادئ كان القاسم المشترك فى كل نقاش وفى كل قضية.. ومنذ السبعينات ونحن نلتقى فى مكتبى بين الحين والآخر، هو الذى يحدد اللقاء، وهو الذى ينتقى الصاحب، وقبل سفره كان يتصل بى يوميا مرة أو مرتين فى اليوم ليطمئن على تقدم مراحل الشفاء من الجلطة التى أصابتنى، وحين رددت عليه بعد أن أمكننى الحديث كان صوته يرقص طربا فى التليفون، وعلا وانفعال وكأنه لا يصدق أن صديقه قد كتبت له صفحة حياة جديدة، وقال: ( أسافر وأعود فتعدد للقائنا، فقد أوحشتنى والله جلستنا، أخبر عبد العزيز عبدالله وصلاح الدين حافظ والدكتور القط، وقل له يحضر ديوانه ليقرأ لنا من شعره، ولا تنسى فتحى عبد الفتاح وسعد لبيب)..
من يومها لم أسمع صوته ومضى شهيدا حيا فى قلوبنا.. ومن لحظتها وستوحش الجلسة من غيره، وإن جلس الصحاب فإنما ليذكروه ويذكروا صحبته الإصلية وصداقته الرائعة الحميمة.. وليقولوا مع غسان فى ( وطنى عكا ) حين استشهد صاحباه وماجد ومقبل مخاطبا أرض وطنى، فى شعر الشرقاوى العذب الصادق الجميل:
" غسان: سيظل دم الشهداء هنا فى أرضك يا وطنى علما (مقبل مات) ..
يخفق فى ليل الأحزان بنبضة قلب المستقبل.
كيف أصدق..
سيظل يؤج هنا بالنور، ويصبغ وجه الفجر دما
أجنون ذلك أم كلمة، سيظل يضئ هنا كالمشعل.
تظلم أرضى وسمائى بعدك يا ( مقبل ) فوا أسفى..
سأعود اليوم بلا ( ماجد ) وأقاوم دونك يا ( مقبل )..
عدنا اليوم بلا عبد الرحمن .. وسنقاوم دونك يا شرقاوى).. وأظلمت من بعدك أرضى وسمائى .. ولكنك ستظل مضيئا فى قلبى كالمشعل.


فاروق خورشيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق